انتهت \”زفّة\” بغداد عاصمة للثقافة سينمائيا. وتوقف تمويل \”الحكومة\” بانتهاء كم المال المرصود. بدءا، أوضح هنا بأني لست بصدد تقييم تجربة التمويل هذه بالذات، بل سأحاول توضيح لبس يخص مقدار \”تخلُف\” آليات الإنتاج والتمويل السينمائي العراقي سابقا وراهنا. ولكونها أكثر الفنون تكلفة من الناحية المالية، ولكون الكفاءة فيها مرتبطة بمقدار من المال، قد يصغر ويكبر على ضوء المنهج والظرف الإنتاجي للمنجز؛ فان إشكالية التمويل في السينما هي الإشكالية الأكثر تعقيدا، والأكثر تأثيرا في الشكل النهائي للفيلم.
الكثير من الدول، أدركت خطورة تأثير السينما في مجتمعاتها، فاتخذتها سلاحا لنشر الأجندات والأفكار الخاصة بالأنظمة الحاكمة لتلك الدول. تحديدا في ما كان يسمى الدول الاشتراكية. لم يكن العراق والنظام الحاكم فيه ـ وقتذاك ـ بمعزل عن هذا الإدراك، فتم \”تأميم\” السينما، تأميم لصالح الدولة الراعية لها ـ الدولة البعثية ـ، تأميم بصيغة الاحتواء الكامل ولـيُفرّغ الفيلم العراقي بشكل شبه إجمالي، من طاقته التعبيرية والجمالية لصالح طاقات تعبوية تصب في خدمة الحزب والثورة ومن ثم حروبها!
ولكون ألوان الثوب اختلطت وقتذاك في كون الدولة هي الحكومة وهي الحزب الواحد وبالضرورة هي الثورة! فان السينمائي العراقي، دون وعي أو قرار منه سقط في فخ عدم القدرة على التمييز بين التمويل الحكومي للسينما وتمويل الدولة لها. والفرق هنا شاسع.. سعتهُ: سعة الفرق بين مفردتي الحكومة والدولة في بديهيات القاموس السياسي.
وبعد سقوط إمبراطورية البعث، وسعي العراق للم فتاته والركض نحو قطار \”الدول الحديثة\” تغيرت الكثير من المفاهيم، وبقي منها الأكثر. والمتبقي منها قد بقي ثابتا وبذات البعد المفهومي والأخلاقي الذي كانت قد تأسست عليه وعلى مدى أربعة عقود. واحد من أهم هذه الثوابت هو اللبس في فهم الفرق بين تمويل الدولة للسينما (وهو ما نعمل على تأسيسه) وتمويل الحكومة (ما هو قائم الآن ونحاول إنهاءه) إنه لبس اكتسب صفة اليقين والعرفان، حتى أن أكثر السينمائيين العراقيين انتماء للحداثة في السينما، إنتاجا ومن ثم منجزا، لم يمروا، ولو مرور الكرام، على هذا المفصل الحاسم في تحديد ملامح شكل الفيلم السينمائي في العراق.
الفرق في مداه النهائي هو محاولة، قد تصعب في مجتمعنا في المراحل الأولى، في الفصل بين سلطة الحكومة، بمفهومها الانتقالي، وسلطة الدولة (الدستورية) بمفهومها الدائم. إنها قوانين يجب أن تُسن لتحمي المنجز ولتدفع به إلى الأمام. أن يكون الفيلم عراقيا صرفا، لا ممثلا لحكومة تنتهي صلاحياتها ـ بكل ماكنتها الدعائية ـ كل أربع سنوات.
إلى هذه اللحظة وبعد عقد كامل من زلزال التغيير في العراق، فان من يمسك بمفاصل الحكومة العراقية، يعتقد بالضرورة أن كل ما يمول ثقافيا من \”الدولة\” العراقية هو مؤكدٌ و\”مُبوق\” لهذه الحكومة، كما هو حاصل في شبكة الإعلام العراقي للأسف، حيث تحولت من مؤسسة دولة إلى مؤسسة حكومية بامتياز.
أثبتت تجربة الدولة الفرنسية في التمويل السينمائي نجاحا هائلا للتحول إلى ما يشبه الأنموذج ولتلحق بها سريعا ألمانيا واسبانيا وبقية الدول الأوربية، مدركين بأن تمويل الدولة للسينما هو ضرورة ثقافية – اجتماعية، من المستحيل أن تتجاهلها، وذلك بالرغم من فعالية قطاع الإنتاج الخاص في تلك الدول، إلا أن تمويل الدولة قد سمح باستمرار ولادات مستمرة للفيلم السينمائي المتأسس خارج اللعبة التجارية، أو مجاورا لها، ليبلغ الدعم السنوي للدولة الفرنسية أكثر من ستمائة مليون دولار سنويا، وهو التمويل الذي يستمر بوضع السينما الفرنسية في طليعة الإنتاج السينمائي العالمي.
أحدث مقاربة وتمثيل للتجربة الفرنسية كان في المملكة العربية المغربية. فبعد أن أقرت الدولة المغربية ـ لا الحكومة ـ تمويلا سينمائيا سنويا بلغ عشرة ملايين دولار، نجح الإنتاج المغربي في القفز من فيلمين روائيين سنويا إلى عشرين فيلما روائيا سنويا. والتمويل لا يعني هنا صرف المال على إنتاج الأفلام فقط، بل يتجاوز هذا إلى سلف ترميم دور العرض والتأسيس لثقافة تلق سينمائي عبر الإعلام والإيفادات والأرشيف.. الخ.
كانت تجربة تمويل \”الحكومة\” للإنتاج السينمائي عبر فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العراقية، خير دليل على عبث هذا التمويل وتسليط مخالب \”الحكومة\” على آليات الإنتاج ومن ثم تضييع فرصة تاريخية لتوفير رأس مال من الدولة العراقية لدعم صناعة السينما في هذا البلد الجريح.