يعتبر جنس القصة القصيرة جدا او كما تعرف بالقصة الومضة (flash story) او القصة المايكرو (micro story)، ومنذ ترجمة فتحي العشري لـ(انفعالات) ناتالي ساروت عام 197، والتي اختلف النقاد في تجنيسها، وإن ارجعها بعضهم الى القصة القصيرة جدا، من الأجناس الاشكالية التي لم يستقم لها مفهوم واضح في ممارساتنا النقدية والنظرية، إذ مثلت اغلب الكتابات التي كتبت تحت مظلة هذا النوع نزوعا الى الاقتراب الى اجناس اخرى ومنها قصيدة النثر، والأطر الحاكمة لكلا الجنسين متقاربة من خلال التكثيف والاختزال، وهذا ما يجعل قراءة الناقد عسيرة للفصل بين هذين الجنسين، حيث ان البنية الشكلية للقصة القصيرة جدا تكاد تفارق البناء التقليدي للقصة القصيرة، لكنها رغم هذا التكثيف والاختزال والتنازل عن الكثير من البنى المشكلة للقصة، تحافظ على وجود مقبول للبنى الرئيسة المشكلة للخطاب السردي، أي الشخصية والزمان والمكان والحدث السردي.
ان البناء الشكلي للقصة القصيرة جدا لا يقترن فقط بالمدى الذي تأخذه داخل اللغة بالطول او القصر، وانما يعتمد على مرتكزات رئيسة مهمة تميزه عن القصة القصيرة التقليدية، وذلك هو الاختزال والتكثيف في الحدث السردي والاكتفاء بأقل الشخصيات، بالاضافة الى زمكانية مقننة، فالتكثيف (يحدد بنية القصة القصيرة جدا ومتانتها لا بمعنى الاقتصاد اللغوي فحسب وإنما في فاعليته المؤثرة في اختزال الموضوع وطريقة تناوله، وإيجاز الحدث والقبض على وحدته)*، اذ انها تقفز مباشرة الى الحدث المركزي بدون مقدمات، مكتفية بالاطر التي يوفرها ذلك المركز لخلق اجواء القصة، وتعتمد على حبكة بسيطة في فضاء زمكاني مختزل.
وللخروج من الاطر اللغوية المقننة تحاول القصة القصيرة جدا فتح فضاءات دلالية من خلال اللعب بالفضاء الافتراضي الذي توفره اللغة، وايضا الاحالات التناصية التي تفتح مسارب واسعة للتأويل.
فلو أخذنا المجموعة القصصية (صور ونبضات)** للقاص فاهم وارد العفريت، لرأينا انه يعتمد اكثر الاحيان على اللغة الشعرية، بيد انه يحافظ على توازن البناء السردي من عدم الانجرار وراءها الى خارج سرب القصة القصيرة جدا، حيث نرى في نص (اسم) ص16 هذا النزوع الشعري عندما يقول (عندما لملم شظايا ذاكرته، تقعر صوته في المرآة عندها مزق الذكرى وهم بإبدال قلبه، ليسير باسم مستعار جديد)، حيث تظهر لنا العلاقات الدلالية التي تشير الى مدى شعرية النص، إذ بني على مقاربات بلاغية، تنحو بالنص الى مدارات احالية، لا تتعلق بالسدى الموضوعي الذي ربما يرممه السرد في بنيته العلائقية، لكن يمكننا ان نكتشف اللعبة السردية داخل النص عندما نربط مجموعة الدلالات واحالاتها بخيط بنائي واحد، مبني على ما يخلفه العنوان (ثريا النص) من تأثير في تلك الدلالات، وهناك نص آخر هو (قلب) ص40 يبنى على لغة شعرية مكثفة وايحائية، اذ يقول (بما ان قلبها دائم الاحتراق، فإن دخان أيامها لم تنقطع مصادره، فهو متواصل التحليق في فضاء عمرها.. ولأن دمعها كثير الجريان فإن أعشاب الهموم قد نمت بكثرة على ضفتي قلبها الناصع العواطف)، ويرينا هذا النص العلاقات الدلالية القائمة على بعد شعري، يعتمد على العلاقات الافتراضية التي يولدها الشعر في فضائه اللغوي، كقوله (شربت ملابسها على الدوام اسوداد تلك اللحظات لتتشابك بين أيامها عرائش الألم المستبد)، بيد أن النص أيضا يعمد الى مد سداه السردية، من خلال ترتيب العلاقات الدلالية التي تحيل الى حدث سردي مفترض، قائم على بنية محكومة بتلك التراتبية في فضاء زماني يحدد ذلك الفعل السردي، وهناك الكثير من النصوص داخل المجموعة تحيل الى هذا النمط الكتابي..
هناك آلية أخرى ربما اجترحتها نصوص المجموعة، وهي بناء النص على بنيتين متقابلتين او متوازيتين او متقاطعتين تتمفصل إحداهما بالأخرى، وهذا التمفصل يأخذ عدة اشكال؛ كالفعل في نص (قبطان) ص20، أو السؤال في نص (الفرار) ص3، أو التذكر في نص (أجواء) ص34، ونص (جمناستك) ص33، أو التعليل في نص (لصوص) ص35، أو انتقال زمكاني في نص (بقاء)31… الخ.
تظهر تلك البنيات في نص (بقاء) مثلا، عندما يبتدئ النص بالأمير والجواري، لكنه سرعان ما ينتقل زمكانياً الى الحكيم الفقير الذي يحكي عن الملوك الاشداء، أو نص (جمناستك) الذي يبدأ الحديث عن الفتاة وينعطف ذاكراتياً الى ذكريات السارد، ومن الملاحظ ان بدايات اغلب تلك النصوص عبارة عن اسم مفرد (القبطان) في نص (قبطان)، و(الغزالة) في نص (فرار)، و(المنبر العالي) في نص (أجواء)، وعلاء الدين في نص (لصوص)، و(الجواري) في نص (بقاء)، و(الفتاة) في نص (جمناستك).
تبنى بعض النصوص الاخرى داخل المجموعة على علاقات تناصية، تفتح مديات النص، ومنها التناص القرآني كما في نص (تيمم)، والذي تناص مع الآيتين الكريمتين من سورتي المائدة الآية 6، وسورة النساء الآية 43، بيد انه تلاعب بتلك المرجعيات، اذ ان الآيتين حددتا التيمم بعد ملامسة النساء وامور اخرى، بيد ان النص جنح الى التيمم بالشوق بعد ان لم يحظ بحبيبته، وبذلك أعاد النص ترتيب علاقته بمرجعياته من خلال آلية التناص، وكذلك في نص (شراء) حيث تناص مع الآية القرآنية (فأما الزبد فيذهب جفاء) سورة الرعد الآية 17، إذ يقول النص (بائع الخمر في الحانة القديمة يشتري منه زبائنه الزبد كل يوم قبل ان يذهب جفاء) ص14، وهناك تناصات اخرى حفلت بها المجموعة كالتناص مع الف ليلة وليلة في نص (حكايا) ص18، والتناص مع احد الامثال الشعبية (كالجالس على عل يرى الناس صغارا وتراه الناس صغيرا) في نص (نجوم) ص22، والتناص مع قصة نبي الله يوسف (عليه السلام) في نص (تهمة) ص23، وايضا التناص مع قصة علاء الدين والمصباح السحري في نص (لصوص) ص35، والتناص مع ملحمة كلكامش في نص (عشبة) ص70.
تجربة القاص فاهم وارد العفريت من التجارب التي يجب اخذها بنظر الاعتبار النقدي، ومحاولة قراءتها ضمن نسيج المشهد السردي العراقي، لأنها تمثل تجربة مهمة من حيث الرؤية، والبناء السردي، والتي توزعت على مجاميعه القصصية ومنها هذه المجموعة التي جعلها مساحة للسرد القصير جدا.
* شعرية القصة القصيرة جدا – جاسم خلف الياس – دار نينوى – دمشق 2010 ص117
** صور ونبضات – قصص قصيرة – فاهم وارد العفريت – دار رند – دمشق 2010
*** ناقد قصصي