ثنائية الريفي/ المديني.. مَنْ يتحمل رَيّفَنَة المدينة العراقية؟ (1-2)

ثمة شكوى متصاعدة، ومتوالية عن التغييرات الديموغرافية، والاجتماعية، والثقافية التي شهدتها وتشهدها المدينة العراقية. خاصة خلال العقدين الأخيرين، بفعل موجات النزوح الهائلة من الريف الى المدينة. وعبر تلك الشكوى، يتم سرد مواطن الخلل، والإرباك التي أحدثها ذلك النزوح – وبإطناب مملٍ احيانًا- يصاحبه بكاء لدرجة النحيب، على الانحدار الكبير الذي أصاب المدينة، مع ناستولوجيا مغرقة بالرومانسية، الى الماضي المديني الذي عرفته بعض المدن في العراق، وخصوصًا الكبيرة منها. 

لا شك، أن ثمة انتشار مفزع لقيم الريف، وأعراف القبيلة، وتقاليد ما قبل مدينية تمكنت من ترييف المدينة، وغزو فضاءاتها المتنوعة كلها. حتى تلك التي تعتبر تاريخيًا، أمكان حضرية فاعلة كـ(المؤسسات التعليمية) المشهورة بقيادة دفة العصرنة والتحديث. أدى ذلك الانتشار اللامديني، الى تهديم القيم المدينية، وتاليًا المدينة نفسها، وتحويلها الى خرائب، وأطلال يجول فيها الفاعلون الوافدون (المخربون) بحرية وانتشاء. ذلك كله أفضى الى رزوح المدينة تحت طالة قيم العشائرية، والقبائلية التي تتناحر مع الفضاء الحضري، الذي تتسم به افتراضًا المدينة العراقية.

ويجري عادة بين عامة الناس، وجزء كبير من النخبة أيضًا، إلقاء المسؤولية كاملة على عاتق المهاجرين الريفيين، والوافدين إليها. واتهامهم بتدنيس طهر المدينة، ونقائها. وتحميلهم غزوة التخريب الشامل لبنياتها الحضرية كلها، وإبدالها ببنى عتيقة بدائية، ومتخلفة. محولة من المدينة قرية تحكمها أنماط وسنن لا تمت بصلة لها.

أحاول هنا -على جزأين- ممارسة تفكيك هذا الاتهام، الراسخ والمترسخ في ذهنية ابن المدينة، تجاه الوافد من الريف المتهم، وربما المدان من قبله بهذه الريفنة التي ألحقها بالمدينة.

فهل بالفعل ان المهاجرين الى المدينة من الريف، هم من يتحملون مسؤولية هذا الدمار الهائل الذي لحق المدينة العراقية؟

إذا كان الأمر كذلك، فكيف تأتى لهم أن يفرضوا نموذجهم على الفضاء المديني؟

أليس في ذلك هروبا من مواجهة الحقيقة الأخرى، التي تؤشر أن الريفي الوافد، وإنْ كان (الفاعل) لهذا الهدم ظاهرًا، لكنه ليس كذلك عند تقليب الحقيقة، والغوص في أعماقها بحثا عن الفاعل الأصيل، الذي يتوارى خلف مجموعات المهاجرين (المدانة) بالتورط في تشويه القيم الحديثة، ونخر قيعانها، واستبدالها بثقافات كلسية غاطة في ظلامية مدلهمة. 

يقال إن لفظ (المدينة) اشتق من لفظ (دان). ومعناه قاضي أو حاكم أو حكم على. فهل يا تُرى كان حكم مدينتنا وقضاؤها عادلًا ومنصفًا، عندما اصدر حكمه بإدانة الريفي المهاجر، وتحميله مسؤولية التخريب؟

المدينة: الوظيفة/ النشاط

ثمة تعريفات تمتلئ بها أدبيات السوسيولوجيا، على مختلف انتماءاتها المكانية، وتنوع مشاربها المدرسية. وهي في الغالب تتناول تعريف المدينة عبر جملة من الاشتراطات الشكلية، الى جانب تبيان وظائفها، وأنشطتها، وفعالياتها المتعددة المجالات.

ما يهمني هنا، ليست الجوانب الشكلانية المتصلة بعدد السكان أو حجم المكان أو موقعه، فهي تتغاير وتتنوع باختلاف المنحدر المكاني لهذه الدولة أو تلك. فالمدينة ليست مجرد تجمعات من الناس برأي روبرت بارك.

ما يعنيني هو؛ معرفة الأدوار الجوهرية، والوظائف العميقة التي تَسِمُ المدينة وتتفرد بها عن بقية الفضاءات غير الحضرية. 

طبعا، ثمة وظائف (تقليدية) – وهي مهمة- تتولاها المدينة، أي مدينة في أصقاع الأرض، وتكوّن علاماتها الحضرية. وظائف كثيرة، ومتعددة تتنوع بين سياسية وإدارية وتجارية وصناعية، وسوى ذلك من فعاليات، تحتاج إليها المدينة ذاتها ولذاتها. والمقصود بـ(لذاتها) ما له علاقة بديمومة الحياة لها، ولأفرادها، وسكانها الأصليين بالدرجة الأساس. 

الى جانب تلك الوظائف (التقليدية)، ثمة وظائف أخرى، تتولى – من وجهة نظري- مَهمَّة الحفاظ على الفضاء الحضري للمدينة، وعلى بنياتها، وقيمها، وأنماطها المدينية. ومن أهم تلك الوظائف هي: (التعليم) بحقوله الممتدة، و(الثقافة) بمدياتها الرحبة المرنة. فالمدينة ليست سوقًا ومصانعًا وتجارة، الخ وحسب، كما أنها ليست منتوجاتٍ وسلعًا. بتعبير السوسيولوجية العربية جانيت أبو لغد.

ما يجعل المدينة، تكتسب صيرورتها الكاملة هو؛ تكاملها الوظيفي دون إهمال وظيفة من وظائفها. وإلا لن تتمكن المدينة من مواصلة حضورها الحضري المؤثر، والفاعل. وان كنتُ اعتقد أن المدينة تسمو، وتتشكل بأدائها التعليمي، والثقافي، وبدورها في نشر الوعي، والثقافة الحضرية. لأنّها معنية في الصميم، بنشر التمدين باتجاه الأرياف والضواحي والعمل على حضرنتها. فضلا عن تعميق العصرنة داخل فضائها الحضري. لأنّ المدينة ببساطة هي؛ ظاهرة حضرية ومركز إشعاع ثقافي وعلمي وفني. وهي (الكائن الحي) كما عرفها لوكوربوزيه أو (أسلوب حياة) بوصف منظري مدرسة شيكاغو. 

ومن هنا يبرز تساؤل ملح: كم يا تُرى من الوظائف، والأنشطة، والفعاليات تولتها المدينة في العراق، خلال العقود القليلة المنصرمة؟

وهل فَلِحَتْ بمد إشعاعها الحضري، إلى أبنائها الوافدين إليها من الريف، قبل أن تعمم حضريتها على الأرياف في خارجها؟

الدولة: جذر الرَيفنة

صحيح، أن المدينة بوصفها ظاهرة حضرية، يصبو إليها الكثير من السكان، طلبًا للاستيطان. سواء أولئك المقيمين في ضواحيها الريفية أو المتوطنين في مدن صغرى، يقل فيها النشاط الحضري الملبي لسكانها ومواطنيها. 

هذا صحيح، ولا مراء فيه. لكن الصحيح أيضا هو؛ أن ثمة عوامل جوهرية عميقة، وراء تصاعد وتائر الهجرة من الريف الى المدينة، خصوصا في المدينة العراقية التي تعاني اليوم من تضخم سكاني هائل. وتلك العوامل كامنة؛ في اقتصار، بل احتكار الدولة مشاريع التنمية على المدن، وتحديدًا على (المدن الكبرى) دون سواها. 

فقد غابت الخدمات الأساسية، والضرورية. سواء تلك المتعلقة بالخدمات البلدية: من طرق، وكهرباء، وماء، وشبكات صرف صحي، وخدمات صحية، الخ او القطاعات الخدمية الاخرى المتعلقة؛ بالتعليم، والتعليم المتقدم، ووسائل الترفيه، والتقانة الحديثة، وسوى ذلك من الخدمات التي لم تعد حكرًا على الفضاءات الحضرية، ولم تعد تشكل علامات فارقة خاصة بها. ومع الاحتكار هذا (بطبيعة الحال) ستتسع الهوة، وتتضخم بين الريف، والمدينة.

وهنا يبرز التساؤل الملح: هل كان الريف في العراق يتوفر على تلك الخدمات؟ ربما هو تساؤل ساذج من وجهة نظر البعض! لأنّ الإجابة أكثر من بديهية وصارخة حيث الظروف المأساوية للمعيشة هناك، والتي جعلت من الريف يعيش أوضاعًا حياتية غاية في البدائية والتخلف.

وكما فشلت الدولة في توفير الخدمات الأساسية لسكان الريف، أخفقت أيضًا وبشكل مريع ومزمن في تشريع حزمة قوانين ناجحة، لدعم القطاع الزراعي، وشريحة الفلاحين، وتحسين الخدمات الزراعية والاهتمام بها، وتوفير كافة مستلزماتها، للرفع من القدرة الإنتاجية للأيدي العاملة هناك. وقد أدى سقوطها هذا الى؛ اتساع مساحة التصحر، وانقراض الزراعة، وبانقراضها انقراض الريف أي؛ تصحره، وتصحر الريف يعني؛ زوال المكان. وفي زوال المكان، تزول مكانة الريفي. بتعبير الراحل نجيب المانع. 

وتاليًا ازداد الريف فقرًا وفاقة، واستفحلت الأزمات بسبب غياب الحلول الجادة، والمخلصة. وكثرت عوامل الطرد والدفع في الريف، وأخذت ترغم أعدادًا هائلة الى الهجرة نحو المدينة.

فهل كان تَرْكُ الموطن الأصلي من قبل الجماعات المهاجرة من الريف، ونزوحهم الى المدينة بطرًا وجزافًا؟ أم هو الفقر وشح الفرص، اللذان دفعان ويدفعان لمغادرة الأمكنة الأولى.

سنبحث في ذلك كله، الى جانب التعرف على نوع الاستقبال أو التعامل الذي تقمصته المدينة إزاء الوافد إليها من الريف؟ فهل عملت المدينة على توفير فرص الاندماج في فضائها الحضري أم غلّقت الأبواب أمام وجه الوافدين إليها من الريف، وتركتهم يواجهون تجربة رهيبة، وموحشة بالنسبة لهم؟ كذلك سنتوقف عند مسؤولية الريفنة التي تعاني منها المدينة العراقية. فهل يتحملها الوافدون أم المدينة؟ وكيف؟

نناقش ذلك في الجزء الثاني من الدراسة…. يتبع

* كاتب من أسرة تحرير \”العالم الجديد\”

إقرأ أيضا