ينشغل العالم اليوم بدراسة أثر النزاع الروسي الأمريكي على السلم العالمي والعلاقات الدولية، وتتداول نخب سياسية وفكرية الأثر المحتمل لهذا النزاع على العديد من أزمات العالم وقضاياه المشتعلة، حيث طرحت الأزمة السورية على سطح الأحداث السياسية العالمية في السنوات الأخيرة، والتي انتشرت أخبارها في الصحافة والإعلام في جميع أنحاء العالم، وبذلك أصبحت في مقدمة الأزمات والمشكلات التي تعرض لها الوطن العربي الكبير.
تتقاطع المصالح الإستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وروسيا في بعض المجالات، لكنها تختلف في مجالات أخرى. لكن المشترك بينهما أن القوتين حريصتان جداً على أن يكون لهما نفوذ قوي في هذه الدولة ذات الموقع المميز والاستراتيجي بهدف تمكين مراكزهما الإقليمية وتحويل موازين القوى لصالح كل منهما.
بالنسبة لروسيا، فسوريا هي واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط، وسيترتب على زعزعة الاستقرار فيها عواقب وخيمة في مناطق تمتد بعيدا عن سوريا نفسها.
كما ترى روسيا أن سوريا هي \”حجر الزاوية\” للأمن في الشرق الأوسط، وعدم الاستقرار أو الحرب الأهلية فيها سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار حتماً في الدول المجاورة، وخاصة في لبنان، مما قد يؤدي إلى فوضى حتمية في المنطقة بأسرها، تهديد حقيقي للأمن الإقليمي ككل. حيث استخدمت روسيا حق النقض أكثر من مرة ضد مشاريع غربية في مجلس الأمن، وخاصة بعد فضيحة التدخل الليبي.
أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أكثر من مؤتمر صحافي بأن \”روسيا ستبذل كل ما في وسعها لمنع حدوث السيناريو الليبي في سوريا\”، يعني هذا التصريح أن روسيا لا تعتبر ما يجري في سوريا ثورة، بل صراعا عنيفا بين حليفها (النظام) من جهة، ومن الجهة الأخرى الإسلام العسكري الجهادي الذي يستخدم الحرب غير النظامية (الإرهاب) للوصول إلى السلطة من أجل إجراء الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وفقا للشريعة.
ووفقا للفهم الروسي فإن هذا المشروع يجري بموجب دعم سري من القوى الإقليمية والدولية التي هي في حد ذاتها دول غير صديقة لروسيا مثل تركيا والولايات المتحدة وبعض الدول العربية.
أما العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا فهي متوترة منذ ما يقرب خمسة عقود. فسوريا متورطة في دعم الإرهاب وفقا للإدارات الأمريكية المتعاقبة، من خلال دعم حزب الله اللبناني وحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، وبعض الجماعات الكردية مثل حزب العمال الكردستاني PKK، التي كانت وما تزال تستهدف تركيا، عضو حلف شمال الأطلسي وحليف الولايات المتحدة الأمريكية.
فالمحافظون الجدد والمتطرفين في الإدارة الأمريكية يعتقدون أن الولايات المتحدة لديها مصلحة إستراتيجية قوية في انشاء حكومة معتدلة في سوريا بعد الأسد، تحترم حقوق الإنسان، وتتمسك بحكم القانون. سوريا وفقا لهم لا تزال تشكل تهديدا للإستراتيجية الأمريكية والمصالح الأمنية في الشرق الأوسط. إذ ترعى الحكومة السورية جماعات مسلحة تعتبرها الولايات المتحدة جماعات إرهابية،
كذلك طورت سوريا برامج يشتبه أنها أسلحة الدمار الشامل، وعززت علاقاتها السياسية والعسكرية مع الدول \”المارقة\” مثل كوريا الشمالية وإيران.
لذلك، فان العديد من المحللين الإسرائيليين يرون أن إضعاف النظام السوري أو القضاء عليه سيجلب المعارضة الموالية للغرب إلى السلطة، وبالتالي تشكيل حكومة تؤمن بالسلام وتعمل على خفض علاقاتها الوثيقة مع المقاومة الفلسطينية وحزب الله وإيران، وهذا بدوره يشكل فرصة لتعزيز مصالح كل من الولايات المتحدة وإسرائيل الإستراتيجية، هنا يمكننا القول أن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية تقفان على أرضية واحدة لأن الأهداف مشتركة والإستراتيجية متناغمة للهيمنة والوصاية على المنطقة العربية وعلى الأخص سوريا، بالرغم من أن المجتمع الدولي يرفض التوجهات الإسرائيلية لاستهداف الأرض والشعب العربي، إلا أن النفوذ الإسرائيلي داخل المجتمع الدولي قوض إرادة المجتمع الدولي للوقوف ضد المشروع الصهيوني.
كما يتفق معظم المحللين السياسيين على أن الأزمة السورية لم تعد نزاعاً داخلياً بين الحكومة والمعارضة، بل أصبحت حرباً بالوكالة وصراع على سوريا وفقاً للمصالح الإستراتيجية للقوى الإقليمية والدولية.
فمن الواضح أن الروس يعملون بقوة على ضمان استمرار النظام السياسي الذي يقوده الرئيس بشار الأسد لضمان احتفاظهم بالحصن المتبقي لهم قرب مياه البحر الأبيض المتوسط، بينما يعمل الأمريكيون على استثمار حالة الغليان، ليحققوا في آن واحد، جملة من أجنداتهم السياسية في سورية والمنطقة. فالأهداف الأمريكية أكثر اتساعًاً من التدخل في الشؤون الداخلية السورية. فبينما ترتكز السياسة الروسية، على التصدي لحالة التطويق التي يفرضها الأمريكيون في حقهم، ومواجهة نزعاتهم التوسعية، تعتمد السياسة الأمريكية على المبادرة وسرعة الحركة. لإسقاط النظام في دمشق الذي يحقق لها جملة من الأهداف. لعل في أعلى قائمة الأهداف القضاء على قوة حزب الله اللبناني، وإبعاد إيران عن البحر الأبيض المتوسط. وكلاهما حليف استراتيجي لدمشق. يضاف إلى ذلك، إضعاف المقاومة العراقية التي يتمركز كثير من مقراتها في دمشق. كما يعتمد التحرك الأمريكي الجديد في المنطقة، على استثمار \”ربيع الثورات العربية\” لتحقيق ما عجز الاحتلال المباشر عن تحقيقه. وللعودة مجددًا لصياغة الخريطة السياسية لعموم البلدان العربية. فالأسلحة التي توجه من إيران عبر دمشق إلى لبنان لدعم قوة حزب الله، والأسلحة التي تهرب عبر الأراضي السورية للعراق لمنظمات المقاومة العراقية سيجري تعطيلها من خلال إشغال النظام السوري بمواجهة حالة الغليان التي تمر بها البلاد، تمهيدًا للإطاحة به. وتجري الآن جولة معاكسة من تهريب السلاح، فبدلاً من تهريب السلاح من خلال سورية إلى العراق ولبنان، أصبح السلاح يهرب في الاتجاه الآخر، لدعم المعارضة السورية، عبر الحدود من مختلف الاتجاهات. ويتوقع الأمريكيون أنه إذا ما تمكنوا من إسقاط النظام السوري، سيضمنون وصول نظام حليف في دمشق، يسهل عملية التوصل إلى اتفاقية سلام مع تل أبيب. وسينهون وجود حزب الله اللبناني، وفي أسوأ الأحوال، سيجري تحويله من قوة عسكرية إلى حزب سياسي، شأنه في ذلك شأن بقية الأحزاب اللبنانية الأخرى. وبذلك يتمكنون من تطويق إيران.
في إطار ذلك فان الروس والأميركيين يستغلون الأحداث الجارية في سوريا بهدف تشديد قبضة الغرب على واحدة من آخر الدول التي لا ترتبط مع حلف الناتو بأي نوع من الاتفاقيات أو التعاون، وتنصيب حكومة موالية للغرب، وربما حكومة تحالف الإخوان المسلمين تحت مظلة تركيا، بالإضافة إلى كسر التحالف بين إيران وسوريا، وتقديم إيران الشيعية كعدو جديد في المنطقة بدلا من إسرائيل الصهيونية، والأهم من ذلك، تشديد الحصار على روسيا وعزلها عن المتنفس الأخير لها في منطقة الشرق المتوسط والأدنى.
إذاً، فالصراع الأمريكي – الروسي على سوريا سوف يرسم طبيعة العلاقات في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى قوة الجيش السوري جنباً إلى جنب مع دفاع موسكو الشرس عن حليفتها الإستراتيجية، والطابع المجزأ للمعارضة السورية التي هيمن عليها مؤخرا الإسلام العسكري الجهادي والمتطرفين الذين يبعدون كل البعد عن القيم الديمقراطية والحريات.
*كاتب سوري