جدلُ الهوياتِ المعلّقة مابين الأنا والآخر في \”التائهون\” لأمين معلوف

تناوبُ السَّرد  

اختار أمين معلوف آليّة كتابة اليوميّات رهانا تقنيا أساسيا في شكلانية بناء السياق العام لمخطوطته السردية (التائهون)، واليوميات تمتد على مساحة زمنية محددة ومؤرخة بستة عشر يوما، تبدأ من 19 نيسان، وهو اليوم الذي سبق سفر آدم الى لبنان قادما من باريس حتى يوم الجمعة 5 أيار، أي قبل يوم واحد من فقدانه الذاكرة بعد انقلاب السيارة التي يستقلها في وادي على طريق الجبل.

كما لجأ معلوف الى تقنية ضمير الغائب بصيغة الماضي أو كما يسميها الناقد نورمان فريدمان \”وجهة النظرالقائمة على المعرفة الكلية المحايدة، وفيها لا يتدخل الكاتب مباشرة بل يتحدّث بشكل لاشخصي، وفي نفس الوقت تُقدَّم الاحداث وتُحلل بطريقة يراها الكاتب ولكن بشكل يختلف عن الطريقة التي تراها بها الشخصية\”.

بجانب ذلك لجأ أيضا إلى تقنية ضمير المتكلم، بصيغة الحاضر في بناء وسرد الاحداث من بين عديد التمييزات والتصنيفات كخيارات مطروحة أمام الكاتب لإيصال وجهة النظر او كما يسميها فريدمان \”الأنا المُشارِك، وهي حالة الراوي بضميرالمتكلم حيث يتساوى السارد والشخصية الرئيسية\”.

كان خيار تناوب السرد الذاتي مع الموضوعي في إيصال محمولات الخطاب الفني في هذا العمل سليم جدا. فحضور ضمير المتكلم في اليوميات جاء منسجما مع موضَعة الحياة الذهنية لشخصية آدم المحورية بصيغة مشهدية، كما أن حضور الضمير الغائب المتناوب في سرد الاحداث كأجراء تقني منح مساحة واسعة بانورامية لها فاعليتها في السرد الذاتي.

من هنا بقيت اللعبة قائمة حتى النهاية كما أرادها أمين معلوف،فالمؤلف السارد يغيب تماما في العرض المشهدي ويصبح جزءا مُدمَجا ومُندمِجا في الحكاية، بينما يحضر بهيمنته العارفة بكل شيء في العرض البانورامي. وقد ساعد هذا التناوب على تحقيق الانسجام في البنية السردية للعمل من حيث تطابق الشكل والموضوع، وهذا هو ما يؤكده بيرسي لوبوك في كتابه المعنون فن الرواية \”الشكل الارقى هو الذي يُطوِّر بشكل أفضل الدعائم الاساسية للموضوع \”.

 فالروائي الناجح هوالذي يمتلك القدرة على بناء سياق فني واضح للحكاية المسرودة،ويبقى مُمسكا به وفق المسار والرؤية التي أرادها أن تكونَ مَخرجا  إجرائيا في إيصال محمولات خطابه.

حكاية الحرب والحنين

آدم ــ المؤرخ والاستاذ الجامعي في مدينة باريس ــ حين خلد للنوم في الفراش يوم الخميس والى جانبه صديقته دولوريس لم يخطر بباله أن الطائرة ستقله في اليوم التالي إلى الوطن، بعد سنوات من الاغتراب الطوعي، لزيارة صديقه القديم مراد، فالكلمات المفحمة التي سمعها عبرالهاتف من تانيا زوجة مراد والتي عَرفَت أن تختارها \”صديقك يُحتضر، ويريد أن يراك\”، جعلت دولوريس تقنعه بأنْ لاخيارأمامه سوى السفر. وليس بوسعه التخلي عن صديق الصبا.

يطير آدم على وجه السرعة لرؤية صديقه الذي كان قد أقسم مع نفسه قبل عدة أعوام على أن لايكلمه بعد أن تحول مراد الى واحد من اثرياء الحرب وتجارها. \”لكن كل الاسباب لا تساوي شيئا حين تقترب ساعة المنون. ولو رفض الذهاب لرؤية صديقه على فراش الموت، فسينهشه الندم آخرحتى آخر يوم في حياته\”.

آدم ينتمي الى \”صنف من البشر لا يستطيع التفكير إلاّ وهو يكتب، فكان لابد له من الشروع في الكتابة لكي ينتظم حبل افكاره، فالتفكيرعنده بمثابة نشاط يدوي\”.

وبعد أن بلغ السابعة والاربعين كان عليه التسليم بأنه سيكون المؤتمن على أحزان وخيبات أحبته المتراكمة، بل وعارهم وخزيهم. والفرق بينه وبين صديقه القديم مراد يكمن في الموقف الوجودي من الحياة. فمراد يُقرُّ بأنْ خيارهُ الوحيد هو: الحياة في المكان الذي ولد فيه، وعليه أن يختار الانخراط في هذه الحياة.

بينما آدم كان يخشى أن يفوتَهُ عصره دون أن يعيشه بشغف مثلما يريد ويختار\”الولادة هي المجيء إلى العالم، لا إلى هذا البلد أو ذاك، لا إلى هذا البيت أو ذاك، وهذا الأمر لم يستطع مراد أن يفهمه أبدا\”.

آدم ينتمي إلى الطبقة الوسطى التي يقول هو عنها \”بوسعها أن تنظر إلى العالم نظرة متبصِّرة\” وبما أن هذه الطبقة لا تعاني من قِصَر النظر يعود ليكتشف ماضيه الذي تخاصم معه، وانسلخ عنه،بعد أن حاول طيلة اكثر من عشرين عاما أن يتجاهله، لكنه لم يستطع الافلات منه.

ولم يكن سعيه هذا لأكتشاف ماضيه الشخصي انطلاقا من أسباب تعود لشخصيته المهنية بأعتباره باحثا ومؤرخا واستاذا أكاديميا هاجسه الدائم في الحياة العودة الى الوراء لنفض الغبار والتراب عن احداث وشخصيات طواها الزمن، بل كانت العودة أشبه بالسقوط داخل متاهة، حاول قدر ما يستطيع أن يتناسى أنها متاهة، وسعى للتعايش والتفاعل معها، وكان لحضوره المادي داخل الوطن جسدا وروحا بعد غياب طويل تأثيرا وقوة  لتدعيم التفاعل ما بين ذاته المغتربة المُعافاة وذاته الجريحة من الوطن، فخرجت أفكاره من إطارالزمان والمكان، وتركزت على سؤال هامٍ ووحيد ظل يردده مع نفسه: \”ما هو السبب الحقيقي لعودتي إلى هذا البلد الحبيب الذي أخشى كتابة اسمه؟\”.

بقي آدم وفيا مع نفسه ومع المبادىء التي حملها جيله لأجل تغيير العالم: \”فالمبادىء هي بمثابة الركائز أو المراسي، حين يقطعها المرء يتحرر، إنَّماعلى نسق كرة ضخمة ممتلئة بغاز الهليوم، ترتفع، وترتفع، وترتفع، موحية بأنها ترتفع نحو السماء، فيماهي ترتفع نحو العدم\”.

ارتباط آدم الوثيق مع مبادئه تتمحورحول تغيير صورة الغد، لذلك هو يدينُ أهلَ بلده، ويصفهم بأنهم متساهلون بشكل يبعث على اليأس مع من يتخلى عن مبادئه ليذهب الى الضفة الاخرى، بل يجدهم يمتلئون إعجابا بشطارة هؤلاء الذين يَصِلونْ، أيّا  كانت الوسائل التي وصلوا بها، وهم بذلك يطبقون المثل الانكليزي عن روما \”حين تكون في الغابة إفعل ماتفعله الضواري\”.

وهذا يُشكل بالنسبة لآدم جزءا من ثقافة الوطن/ الماضي الذي لا يشعر بالحنين إليه: \”أنْ يَضمَحِلَّ عالم الامس، هو سنّة الحياة، وأنْ يشعر نحوه بشيء من الحنين كذلك من سنّة الحياة، إننا نجدُ بسهولة ٍالعزاء لفقدان الماضي، ولكن ما من شيء يعزِّينا لفقدان المستقبل، فالبلد الذي يحزنني غيابه ويؤرِّقني ليس ذاك الذي عرفته في شبابي، بل ذاك الذي حلمت به، والذي لم يُقَّدرْ لهُ أنْ يُبصِرَ النَّورأبدا\”.

لعبت الحرب الاهلية الطائفية في لبنان دورا كبيرا في الكشف عن البقع العمياء والمظلمة في المجتمع: \”في كل ماجرى لامُذنب سوى الحرب\”.

وتمكَّنت بفعل استمرارها وطول مدتها أنْ تقولِب أسوأ الغرائزالانسانية لتصبح ممارسات وعادات وطقوس مجتمعية:\”فكم من الاشخاص تحولوا إلى مهربين وسارقين وخاطفين وقتلة وجزارين، وكان بوسعهم أن يكونوا أفضل الأشخاص على وجه البسيطة لو لم يتقوّض مجتمعهم\”.

وللخروج من هذه البقعة العمياء أضطرالاصدقاء، آدم وألبير ونعيم، الابتعاد عن الوطن، بل عن المشرق كله، لكي يحافظوا على نظافة الكف رغم إقرارآدم بأنّ \”سلوك طريق المنفى كحل وحيد لمعضلاتنا الاخلاقية سيكون منافيا  للمنطق. ويجب أن نجد يوما ما، حلا هناك\”.

الحلمُ بالثورة وتغيُّرالافكار

قبل أثنتين وسبعين ساعة من قرارالسفرالى لبنان لم يكن آدم يفكر بالقيام بهذه الرحلة، ومع وصوله الى الوطن تكوّنت لديه رغبة كبيرة في جمع شتات الماضي، رغم ما حصل من متغيرات جوهرية خلال عقدين من الزمان تفرق خلالها الاصدقاء بين أماكن وخيارات ومصائر مختلفة، وبات من الصعب أن تعود تلك العلاقة بينهم مرة أخرى كما كانت عليه قبل أن يتفرقوا، إلاّ أنّه لم يبخل على نفسه شرفَ محاولةِ جمع شمل اصدقاء كانوا لايفترقون ابدا، كان مراد أبن العائلة الارستقراطية حريصا على أن يجمعهم في سهرات ليلية بشكل دائم في شرفة بيتهم الواسع عند الجبل، وقد شكلوا بأنتماءاتهم الدينية المختلفة صورة عن مجتمع تواطىء مع بعضه البعض على استمرارالسِّلم الاجتماعي بين مكوناته رغم الانقسمات العميقة بينها، فكان طبيعيا أن تكونَ هذه الصحبة بين خليط غير متجانس ٍ دينيا يتألف من مسيحيين (آدم  والبير ومراد وتانيا ورمزي وسميراميس) ومسلمين (بلال ورامز) واليهودي(نعيم).

كان القاسم المشترك الذي يجمعهم هو الحُلم الرومانسي بالثورة والتغيير وفق ما كانت تعكسه الافكار الماركسية ايّام كانت تعيش ذروة عصرها مثلما هي الآن الافكار الدينية الاسلاموية المتطرفة تعيش ذروة عصرها حسب التعبير الذي إستخدمه آدم وهو يستعرض تحليلاته للواقع أمام نضال الاسلاموي المتشدد، وحقيقة التحولات التي طرأت على الافكار في المنطقة وانتقالها من ذروة العصر اليساري الماركسي الى ذروة العصر اليميني الاسلامي المتشدد.

وأثناء سعيه لجمع شمل الاصدقاء القدامى يلتقي بنضال الشقيق الاصغر لصديقه بلال الذي كان يطمح أن يكون كاتبا كبيرا يستلهم وعيه وافكاره من وحي التجربة الحقيقية المعاشة في الحرب، ليدفع بالتالي ثمن ذلك روحه، فيسقط قتيلا وراء أحد المتاريس في مطلع الحرب الاهلية وليترك جرحا عميقا خلفه في قلب عشيقته سميراميس لم يندمل هذا الجرح رغم السنوات التي مضت.

وعلى عكس ما كان عليه شقيقه الاكبربلال أصبح نضال اسلاميا متشددا، واللقاء معه أحدث خلخلة وارتجاجا عميقا لدى آدم المسيحي اللبناني المغترب، ووضعه في حالة مواجهة جدلية مع ذاته وهويته الممزقة بين أنتماءين، انتماء للشرق العربي الذي هرب منه ومن حروبه، وانتماء للغرب الذي لجأ إليه بجلده وحياته.فالحوار مع نضال جعله يشعر بهشاشته من الداخل، ذلك لأنَّ طبيعة وجديّة الحوارذهبت به بعيدا عن هدف اللقاء الذي هو جمع شمل الاصدقاء لينعطف بشكل حاد إلى تقييم واستعراض حقيقة وجوهرالعلاقة مابين الحضارة والهمجية، الدين والمدنية،الغرب والشرق،المستعمِر والمستعمَر، الضحية والقاتل، الأنا والآخر.

فالعَرب ــ كما ردد ذلك نضال بأنفعال واضح اثناء حديثه ــ وخلال اربعمائة عام مضت تعرَّضوا للغزو والأذى ودفعوا الثمن باهظا  لكل الذين استعمروا بلادهم .فهل الموقف هنا بين الضحية والقاتل متساو؟.

وهل كانت الاذيّة مُتبادلة كما ردَّدَ آدم اثناء حديثه؟. وهل منطق ألأذيّة المتبادلة ــ الذي جاء به آدم في سياق حديثه ــ يأتي من باب الاستقامة العلمية في أن يكون محايدا؟.

لمْ يكن اللقاء بين نضال وآدم مجرد إعادة صلة مقطوعة بماضي شخصي بقدر ما كان تصفية حساب مع التاريخ، تاريخُ المنطقة وصراعاتها مع الغرب، فكانت التساؤلات التي جاءت على لسان آدم بمثابة محاكمة للهزيمة والتراجع والخسارات والاندحار الدائم والتخلف عن الحضارة، لكنها بنفس الوقت تركت أثرا بالاستفزاز داخل نضال الذي يمثل جيلا آخر يحمل عقيدة دينية متشددة،ولم يكن بين الاثنين مايربطهما أويجمعها معا سوى خيط واه هو بلال الأخ الاكبر لنضال،فأكتشف آدم بعد هذا اللقاء انَّه ينتمي الى عَصر آخر، عَصرٌ أمست طليعته في المؤخرة، ومن كان في المؤخرة أمسى في الطليعة.

أفضى لقاء آدم مع أصدقاءه القدامى ومع بقية الشخصيات الأخرى التي كان يعرفها قبل هجرته إلى تصفية حسابات مع مرحلة زمنية ماضية ينتمون لها جميعا، بما لها وما عليها، ليصل معهم إلى نتيجة مفادها أنَّهم: كانوا يحملون أنبل الاحلام، وكلما التقى بواحد ٍمنهم يجدهُ متأسفا على ما مضى من الايام، ويتمنى لو عادت بكل ما كانوا عليه من شغف بالتغييروالانتماء للانسانية والنأي عن الانتماءات الطائفية والدينية.

وفي دوامة الاسئلة التي تؤرجحه، يجد نفسه أمام َجواب غريب يفرض حضوره عليه، كان الجواب واضحا في صيغته بقدر ما هو غامض في دلالته: \”لمْ أرجع إلاّ لقطف الزهور. وتبيَّن لي أن تلك الحركة التي تقوم على قطف زهرةٍ وإضافتها إلى الباقة التي نحملها أصلا في يدِنا ونضمها إلى صدرنا، هي الأجمل والأقسى في آن واحد،لأنها تكرِّم الزهرة إذ تخطف منها حياتها\”.

تقانة الرسائل

الاسئلة الجوهرية التي يطرحها آدم على نفسه،يعيد طرحها برسالة على صديقه اليهودي نعيم: \”كيف تفسِّرأننا لم نُحدِث أثرا يُذكَر على مسيرة بلدِنا ومنطقتنا بصرف النظرعن مسيرة العالم؟!.

كيف تُفسر أننا أصبحنا حاليا في معسكر الخاسرين والمهزومين؟\”.

هذه التساؤلات تخصُّ جيلا بأكمله عاش في سبعينات القرن الماضي،كان يحدوه ُأمل كبير بتغييرالعالم وتحقيق السلم والعدالة الاجتماعية والحرية الانسانية،لكنه يكتشف بأنْ لاجدوى من ذلك بعد أن جاءت الحرب اللبنانية الاهلية في منتصف العقد السابع من القرن العشرين وعصفت بكل شيء، فتفرَّق معظم الاصدقاء في بلدان وقارات عِدَّة واصبحوا مهاجرين يحملون جنسيات أوطان أخرى،وماعاد صوتهم يكاد يُسمع. والبعض منهم تماهى مع اخلاقيات مجتمعاتهم الجديدة مثل ألبير الذي أمسى مثليّا  بعد أن لجأ الى الولايات المتحدة الاميركية على أثر تجربة خطف غريبة تعرّض لها قبل خروجه من لبنان، والمفارقة أنها حدثت في نفس اليوم الذي قرر فيه الانتحار خلاصا من الحرب، المتورط بعملية الخطف كانت عائلة مكونة من رجل وأمرأة، ولم يكن ألبير هو المقصود، إنما جاءت عملية خطفه نتيجة مروره صدفة في الشارع الذي يفصل بين طرفين متنازعين، أحدهما تورّط في خطف الولد الوحيد لهذه العائلة، فما كان منها إلاّ أن تردَّ بالمِثل، حتى لو كان المخطوف شخصا لاصلة مباشرة له بعملية خطف ابنهم،فالمهم أن يكون من سكان الحي الذي يتخندق فيه الطرف الاخر، وهذا هو القانون المقدس للحرب الاهلية.

ألبير\”ظل يبتسم مثل الأبله\” أمام تهديد الخاطفين بما ينتظره من مصير وما سيلقاه من تعذيب قبل الموت وتم اكتشاف حقيقة هذه اللامبالاة  في رسالة وداعية كان قد كتبها على ورقة صغيرة، فطلب منهم أن يخرجوها من جيب سترته الداخلي ويقرأوها\”حين تكتشفون هذه الرسالة، أكون قد أقدمت على ماقررت الاقدام عليه.

لا أريد أن يشعر أي منكم بالمسؤولية عن موتي، ولا يتصور أحدكم أنّه كان بوسعه الحيلولة دون حدوثه لو تدخل أبكر من ذلك بقليل.قراري ليس وليد الأمس.فلقد فات الآوان منذ وقت طويل.\”..

وبعد أن تلاشت صدمة الخاطف واستوعب الموقف تحول الى متعاطف معه ومع محنته، لأنَّ الخاطف لايشبه أي خاطف آخر، فهو لم يكن سوى مواطن صالح أمضى حياته يعمل ميكانيكيا ويتطلع فقط لرؤية ابنه الوحيد يتخرج مهندسا  وتحقق له ذلك. لذا اطلق سراح البير بشرط أن يبقى على تواصل معه،وهذا ماتم بالفعل بينهما.

في الرسائل المتبادلة عبر الانترنت، بين آدم ونعيم المُقيم مع عائلته في البرازيل مُذ خرجوا من لبنان ايّام الحرب الاهلية في منتصف سبعينات القرن العشرين يتم الذهاب بعيدا في رسائلهما لاستكشاف الدواعي والاسباب التي عصفت بتلك الصحبة والألفة الجميلة التي كانت تجمع أبناء البلد الواحد وهم على ماكانوا عليه من تنوع ديني وقومي ومذهبي وايدولوجي، خاصة فيما يتعلق بصديقه نعيم، ليتوصلا إلى أنّ النزاع مابين العرب واليهود الذي قلب حياتهم رأسا على عقب، ليس خلافا مثل غيره من الخلافات الاقليمية.

وهنا لابد لنا أن نشير إلى طول هذه الرسائل، والمنحى الاستطرادي الذي ذهبت به باتجاه التحليل السياسي، فجعلتنا نشعر وكأننا نقرأ محاضرة حول تاريخ الصراع القائم مابين اسرائيل والعرب وطبيعته، وبذلك نأت هذه الرسائل بعيدا عن تقانات البناء السردي للرواية وما تفرضه من توظيف آليات فنية يلجأ اليها الكاتب الخبير في مثل هذه الحالات لبناء وصياغة متراكمات الاستطرادات الوصفية والتحليلية القائمة في بنية الرسائل، وذلك بإحالتها الى رؤية فنية تجعلها في صلب الخطاب السردي وليست طارئةعليه وطاردة له.

شخصية آدم هي المعادل الموضوعي المعاصر لشخصية أتيلا التاريخية التي يكتب عنها بحثا منذ عدة أعوام. أتيلا المهاجر الى روما الذي يسعى ألى الاندماج في الوطن الجديد لأجل أن يكون مواطنا رومانيا، وكان لديه كل الاستعداد لأن يتحوّل الى بربري يسعى لغزوها عندما يشعر أن روما سوف لن تفتح ذراعيها له. لكن آدم يجد مدينة باريس تفتح له ذراعيها، مثلما فتحت له سميراميس ذراعيها بعد عشرين عاما على لقائهما الاول الذي لم تكتمل فيه قصة الحب بينهما بسبب خجله وتردده انذاك، مقابل ذلك تكتمل قصة الحب مابين سمير أميس وبلال. وبعد عشرين عام سيتخلى آدم عن تردده، لتصبح سمير أميس عشيقته مرة اخرى.

تعكس سمير اميس في شخصيتها جانبا حيويا وجوهريا من طبيعة الطبقة البرجوازية اللبنانية التي تنتمي لها وما يتداخل في تكوينها من ثقافات متنوعة خاصة الثقافة الفرنسية، فوالدتها دمشقية، ووالدها من منطقة جبيل اللبنانية، أمّا هي فقد ولدت في مصر وغادرتها ولم يكن عمرها قد تجاوزعاما واحدا. والداها كانا يحرصان على أن يتكلما اللغة الفرنسية فيما بينهما وبين بقية افراد العائلة والاقارب، بأستثناء الحديث مع الطباخ والسائق فعادة ما يكون باللغة العربية، وحين يشيران في أحاديثهما الى أهل البلد، من أبناء جلدتهم، من اللبنانيين، كانا يقولان عنهم العرب، وكأنهما من البريطانيين أواليونان.

ولكي يعكس المؤلف بشكل واضح انفتاح الحاضنة الثقافية لهذه الطبقة على الأخرين، يقدم لنا حدثا ثانويا بطله والد سمير أميس الكاثوليكي المتعصب الذي لم يتردد أيام كانوا يقيمون في مصر مِن إخفاء شاب صغير ينتمي لحركة الاخوان المسلمين تورّط مع آخرين في محاولة فاشلة لأغتيال جمال عبد الناصر عام 1954وخوفا من افتضاح الأمر مُستقبلا يبيع بيته وشركته ويصفّي كل مصالحه التجارية ويغادر مصرعائدا إلى لبنان قبل أن يصدر عبد الناصر قراره بالاستيلاء على أملاك اليهود والاجانب والطبقة الاقطاعية ويؤممها، وهذا ما أتاح له أن يحافظ على ثروته ويشتري بها املاكا واراضي في لبنان.

ينهي أمين معلوف أحداث روايته بانحراف السيارة التي تقل آدم وصديقه رمزي وسقوطها في وادٍ بينما هما متجهان الى لقاء بقية الاصدقاء الذين وصلوا الوطن قادمين من اربع قارات، الكل كان ينتظر عودة آدم لتبدأ الجلسة، لكنه تأخر كثيرا ولم يحضر.

فبدأوا في رحلة للبحث عنه بعد أن كان هو الذي يبحث عنهم طيلة الايام الماضية ليجمعهم،فيتم العثورعليه وهو في غيبوبة تامة، وليبقى هكذا مُعلقا مابين الحياة والموت، قبل أن ينكفئ إلى هذا الجانب أو ذاك، وكما تقول عنه صديقته دولوريس \”انه محكوم مع وقف التنفيذ مثل بلده، ومثل ذلك الكوكب مع وقف التنفيذ، مثلنا جميعا\”.

هذه الخاتمة بدلالتها العدميّة تلتقي مع كلمة الاهداء التي استعارها المؤلف من سيمون فايل (1909– 1943) وقدَّمها في مستهل عمله السردي باعتبارها عتبة فلسفية يطأها القارىء قبل الدخول إليه: \”كل ما تمسه القوة ينحط ّقدره أيا  كان التَّماس.. فاللطخةُ هي نفسُها سواء ٌ اعتدى المرءُ أمْ تعرَّض للاعتداء\”.   

ترجمة: نهلة بيضون

الناشر: دار الفارابي – بيروت – لبنان

الطبعة الاولى: كانون الثاني 2013

إقرأ أيضا