صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

جيران القمر

لا أحد يمكنه ان يدعي بأن علاقتنا بالجارة ايران تندرج في اطار \”نحنا والقمر جيران\”. هناك بين هذين البلدين العريقين والمحكومين بجغرافيا الجوار تاريخ ممتد من صراع الامبراطوريات والجيوش الغازية والانتصارات والهزائم والمؤامرات والاتفاقات. وفي التاريخ الحديث، تحولت ايران الشاهنشاهية الى شرطي الخليج، وكانت تعدنا، نحن العراقيين وابناء الخليج، مخلوقات أدنى مرتبة تعيش في بلدان ضعيفة لا تقوى على المساس بسياج الامبراطورية الحصين. وبالفعل، لم نكن نحن من حطم السياج انما تم تحطيمه من الداخل على يد الايرانيين انفسهم، يوم سقطت البندقية من يد شرطي الخليج وانقلبت الارض الايرانية عاليها سافلها. وعندما اشتعلت حرب الثماني سنوات بين البلدين، كانت بصمة ذلك التاريخ الممتد موجودة في المشهد رغم دخول البصمة الاميركية الواضح عليه.

في مقابل هذا المشهد التاريخي الغارق بالدم والاحقاد ومحاولات الاستحواذ وطمس الهوية من قبل الطرفين، هناك مشهد آخر مناقض تماما لم تمسسه اليد الباطشة للامبراطوريات وامراء الحروب من شتى العصور. هناك نسيج يرقد تحت الجلد يصل بين أبناء هذين البلدين، هو مزيج من ثقافة عميقة مشتركة وخبرات التنقل عبر الحدود وزيارة المراقد والتبادل التجاري بل حتى المصاهرة احيانا، اضافة الى وشائج غامضة الملامح صنعها التاريخ بمعرفته لم تستطع ان تقطع اوصالها الحروب والنزاعات.

التقيت يوما في مستشفى بموسكو بسيدة ايرانية جاءت بابنها باحثة عن شفاء لقلبه العليل. كنا في صالة الانتظار عندما بادرتني بالسؤال عن طريق الاشارة من اين انا فقلت \”العراق\”. لم تلتقط الاسم بوضوح، ربما بسبب اختلاف اللفظ، فأردفت \”كربلاء .. الحسين\”. ما ان سمعت هاتين الكلمتين حتى هجمت علي تحتضنني وتمسد بيديها على رأسي وهي تتمتم بخشوع \”يا علي .. يا حسين\” ثم جرجرتني الى حيث يرقد ابنها، وفهمت انها تريدني ان اقرأ دعاء حسينيا يشفيه. ووقعت في محنة حقيقية، اذ كان من المستحيل ان اصدمها بقولي انني مسيحية بالولادة، وبالتالي لن اصلح لأداء الدور الذي تطلبه مني. في تلك اللحظة بالذات، تمنيت لو كنت شيعية علني ابعث شيئا من السكينة في قلب هذه الام الملتاعة. ما فعلته لاحقا هو انني وجدت نفسي اعبر ممر المستشفى ركضا الى الشارع. لقد هربت من الموقف بمنتهى الجبن ولم يكن امامي خيار آخر. لكن هذا الموقف علمني ان هناك مساحات في العلاقة بين الشعوب لا تصلها يد الحكومات المتصارعة.

وفي وقتنا هذا، ان كان هناك من يصر على انكار وجود نفوذ ايراني في العراق، فهذه مشكلته وحده. فلقد نمت في رؤوس بعض السياسيين الايرانيين بذور الشاهنشاهية النائمة ونزعات التقاط بندقية شرطي الخليج المطروحة منذ سنوات على ضفاف شط العرب، وشهوات استعادة التناحر والتصارع والانتقام التي خرجت من بطون التاريخ الممتد. كل هذا قد يصب في صالح السياسيين وتجار الدم والمال والتهريب عبر الحدود المشتركة، الا ان اختلال ميزان العلاقة بين الشعبين، وبصرف النظر عمن تكون له اليد الطولى، مضر بالشعبين معا.

من هنا، يبدو ان مهمة اعادة التوازن تقع على عاتقنا بعيدا عن صناع السياسة في البلدين وطموحاتهم الجامحة. ما زلت ارى ان المشتغلين بالابداع هم رواد التنوير في اي مجتمع، وبالتالي فان التواصل الثقافي هو بوابة يمكن ان تفضي الى اذابة جليد الماضي والحاضر الذي غلف العلاقة بين الشعبين. كلما اقتربنا من ثقافة الآخر المختلف انهارت الحواجز وانفتح افق من التقرب والفهم المتبادل. لا أعرف، على سبيل المثال، لم لا يشاهد العراقيون السينما الايرانية التي اقتحمت المهرجانات العالمية ببساطتها وصدقها العفوي.  

لعل العراقيين يستعيدون وجود السينما في حياتهم من البوابة الايرانية. 

إقرأ أيضا