صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حرب الجيوش الإلكترونية.. أغلبية مزيفة تسعى لابتلاع الحقيقية

  البداية من السعودية حيث نشرت صحيفة عكاظ قبل أيام تقريراً تحدث عن “عشرة الاف…

البداية من السعودية حيث نشرت صحيفة عكاظ قبل أيام تقريراً تحدث عن “عشرة آلاف حساب وهمي على تويتر تهاجم السعودية”، وقال أستاذ أمن المعلومات “خالد عيسى”، إن هذه الحسابات تختلق القصص المسيئة وتكرر نشرها بشكل مكثف ومتزامن، لكن التقرير لم يبين بالضبط معنى “تغريدات مسيئة”، وما إذا كان المقصود بها “تغريدات معارضة”، الأمر الذي حدا بالمعارض السعودي سعد الفقيه التعليق على التقرير بالقول إن ما تتحدث عنه الصحافة الحكومية السعودية، ليس سوى تغريدات المواطنين الذين يخشون كشف أسمائهم بسبب السياسات القمعية في المملكة والتي تحظر إبداء الرأي وتصادر حرية التعبير.

بالعودة إلى حزيران يونيو الماضي قد تكشف المعلومات المتوفرة أن ما يحصل في المملكة هو عكس ما أوردته “عكاظ” تماماً، فالدكتور “مارك أوين جونز” المحاضر في جامعة “توبنغن” الألمانية كان قد أجرى دراسة شملت جمع وتحليل بيانات لأكثر من عشرة الاف تغريدة سعودية ابتداءً من حزيران يونيو 2016، وتبعاً لتحليل المعلومات في القضيتين اللتين اختارهما كعينة لبحثه، وجد “جونز” أنه من أصل 11847 تغريدة نٌشرت حول قضية دعم السعودية لمصر بمليار دولار، كانت هناك 10673 تغريدة وهمية انطلقت من حسابات آلية غير حقيقية (spam) ما يعني أن 90.1% من التغريدات كانت مزيّفة. وكذا في قضية سحب جنسية المعارض البحريني “الشيخ عيسى القاسم”، حيث خلُص تحليل البيانات إلى أن أكثر من نصف التغريدات الداعمة لهذا الإجراء كانت مزيّفة أيضاً!  

ونشر “جونز” ملفاً ضخماً للبيانات التي جمعها وانتهى بحثه إلى أن هذه “المجموعات التويتريّة” تسعى من خلال نشاطها إلى تحقيق ثلاثة أهداف: أولها حجب المعلومات التي قد تسبب انزعاجا وغضباً داخل المملكة، وثانيها: تعزيز الطائفية، وثالثها: ترويج فكرة أن إيران تقف خلف جميع الشرور في المنطقة.  

على الضفة الأخرى للبحر الأحمر، تلاحق تهمة “لجان إلكترونية” الكثير من المدوّنين المساندين للسلطة، وتقول الرواية -التي بدأت بالرواج ابتداءً من ثورة كانون الثاني يناير- أن السلطة تجنّد مدونين على شبكات التواصل لكتابة تعليقات وتغريدات ومنشورات وشن حملات متزامنة -بتنسيق خفي- لخدمة أغراض السلطة وتصفية مناوئيها معنوياً أو إغراق الرأي العام بالحديث اليومي المطلوب، لكن وجود هذه اللجان المفترضة من عدمها ظلّ قضية لا تسندها الأدلة حتى قام الصحفي المصري خالد رفعت بكشف قائمة ضمت 22 “آدمن” يديرون بالفعل “لجنة إلكترونية” تمارس نشاطات متعددة منها –بحسب ما ظهر في التسريبات- اختيار “الهاشتاق” اليومي وتعميمه، اغلاق حسابات المدونين المعارضين، النيل من خصوم سياسيين بعينهم،  الكتابة لدعم شخصيات حكومية مثل محافظ البنك المركزي الذي واجه انتقادات شديدة على خلفية أزمة الدولار.

ويدير المجموعة الصحفي ابراهيم الجارحي (أكثر من مليون متابع) الذي يخاطب زملاءه في المجموعة بإحدى التغريدات المسربة بالقول: “نحن الكتلة الأقوى على السوشيال ميديا”! لكن صفحة المدونين المعارضين –اللذين تداولوا بحماس فضيحة اللجان الإكترونية الحكومية- ليست بيضاء تماماً من اتهامات مشابهة قد تكون أكثر خدشاً لنزاهة “كيبورداتهم”، خاصةً بعدما نُشر من مقالات وحلقات تلفزيونية حول علاقة نشطاء مصريين بارزين بالخارج، وتحديداً بإدارة “أوباما” الديمقراطية.. كما جاء في مقال خالد صلاح رئيس تحرير صحيفة “اليوم السابع” تحت عنوان “ليلة بكى فيها أرامل هيلاري”.. اتهم فيها كلاً من “وائل غنيم” و”باسم يوسف” وآخرين بالعلاقة والترويج المأجور لسياسات الحزب الديموقراطي الأميركي، وهي معلومات وتحليلات قد لا يمكن الاعتماد عليها منفردةً لارتباطها بالسجال الساخن بين الأطراف الإعلامية، لكن تتبع طبيعة ترويج هؤلاء المدونين والإعلاميين وتطابق حركاتهم وسكناتهم واصطفافاتهم –حرفياً في بعض الأحيان- مع الديمقراطيين قد يمنح الاتهامات قدراً معقولاً من المصداقية، خاصةً بعد برنامج باسم يوسف الأخير الذي قال إنه انطلق “من أجل التعايش السلمي”.. والذي كُرّس لمهاجمة المرشح الجمهوري “ترامب” منذ ثوانيه الأولى وحتى نهاية حلقاته العشر. واكتفى “يوسف” بالسخرية من “نظرية المؤامرة” في رده على الاتهام بتلقيه اكثر من نصف مليون دولار من حملة “هيلاري كلنتون”.

وما دام الحديث عن “الدعم الإلكتروني الإعلامي” لحملة هيلاري كلنتون فإن هناك حقائق كثيرة قد لا يكفي لتجاوزها تكرار عبارة “نظرية المؤامرة”.. فكادر نشطاء ومشاهير وإعلاميي ومؤسسات “الربيع العربي” اصطفّ بشكل ملحوظ خلف “كلنتون” التي كان لها -ولإدارة اوباما- الدور الأبرز في دعم وتصعيد ظاهرة “الربيع العربي” بإفرازَيها العلماني والإخواني.. فمن استنفار المؤسسات القطرية “كالجزيرة”، و”الجزيرة بلاس”،  و”العربي”، و”العربي الجديد” إلى “هافنغتون بوست” والمنصات الإعلامية العديدة للإخوان المسلمين، وصولاً إلى اليمنية توكل كرمان وباسم يوسف وتميم برغوثي.. قدم كل هؤلاء الدعم والتحشيد –بعضهم بشكل مباشر- لعرابة الربيع العربي “كلينتون”.. في معركة إلكترونية خاسرة وحراك غير مألوف على الإعلام العربي الذي لم يسبق أن كان التحشيد لمرشحي الانتخابات الأميركية شأناً من شؤونه. 

في العراق.. لم تطفُ على السطح بعد “فضائح” اللجان الإلكترونية كما في مصر.. (ويصطلح عليها في العراق بالجيوش الالكترونية).. يأخذ نشاطها طابعاً آخر، ففي تشرين الأول أكتوبر الماضي، أطلق الإعلام الحكومي مبادرة “تحالف الإعلام الوطني” بالتزامن مع انطلاق عملية تحرير نينوى، وتهدف لتوحيد نشرات الأخبار بين الفضائيات المتحالفة، لكن رئيس مجلس أمناء شبكة الاعلام العراقي (التي تضم الفضائية العراقية) مجاهد أبو الهيل، أعلن لاحقاً ضم “مدوني فيسبوك” إلى التحالف الإعلامي ليتم توحيد النشر حول العمليات على طريقة وزارات الإعلام المندثرة.

وتم بالفعل تشكيل ما سُمّي “فوج الموصل الإلكتروني” الذي ضمّ المدونين الأعلى حصداً للمتابعين، وعمل على تكرار نشر المعلومات التي تصدرها الجهات الحكومية.. وعلى وقع دعوات “توحيد الجهود ورص الصفوف”، أصبحت صفحات المدونين –أعضاء الفوج- نسخاً مكررة من الخطاب الحكومي.. تستقي المعلومات من الأعلى وتنشرها أفقياً.. بعملية استلام وتسليم بحتة مستنسخة عن عمد أو صدفةً من لجان “إبراهيم الجارحي” وغيره. 

لكن هذا لم يكن أول عهد المدونين العراقيين بمحاولة تنظيمهم في مجموعات تُدار من جهة عليا، فقد سبق الإعلامَ الحكومي إلى ذلك إعلامُ الحركات الجهادية التابعة لمرشد الثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، ويمكن اعتبار كتلة “الولائيين” -أي اللذين يدينون بالولاء للولي الفقيه- يمكن اعتبار كتلتهم الإلكترونية الأقوى من حيث التمويل والانتشار، ويتم تثقيف الشبان العراقيين المنتمين لهذه العقيدة عن طريق “مراكز تثقيف” منتشرة في أغلب المحافظات العراقية، فضلاً عن الجامعات والمعاهد، ويولي القائمون عليها اهتماماً بالغاً بالترويج عبر وسائل التواصل التي يُطلقون عليها “الفضاء المجازي”.

في أيار مايو الماضي، وعلى خلفية اقتحام المتظاهرين لمبنى البرلمان، أعلن النظام الإيراني دعمه لرئيس البرلمان –المُقتحَم- وتبع ذلك ورافقه هجمة إلكترونية شنها “الولائيون” ضد المتظاهرين.. ووصل الأمر إلى أن يطلق رجل الدين –الولائي- هاشم الحيدري “هاشتاقاً” أثناء إلقائه محاضرة دينية.. وهي انتقالة نوعية في توظيف المنبر لقيادة الجيوش الإلكترونية، وفور إطلاق الحيدري لهاشتاق “#تحرير_الفلوجة_أولا.. الذي لمز به المتظاهرين بتعطيل الحرب ضد داعش.. استجابت الصفحات التابعة لهذا التيار كصفحة “ملتقى البشائر”، وهو ملتقى شبابي يموله “حسين المالكي- ابو رحاب- صهر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي” كما نشر الشيخ عباس شمس الدين –المعمم سابقاً، والمقرب من تيار الفقيه الإيراني- قائمةً ضمّت 50 مدوناً، قال إنهم “يدعمون الحشد الشعبي” يمثلون على الأرجح كتلة التدوين الولائي في الفيسبوك العراقي، هذا فضلاً عن الصفحات الوهمية التي تستخدم التمويل لشن هجمات متزامنة منها: هجمة ممولة تم رصدها في أغسطس 2015 ضد رئيس الوزراء حيدر العبادي، وحملات متفرقة لشكر قاسم سليماني أو إيران، إضافةً إلى ترويج إشاعات مثل إشاعة “إسقاط إيران ديونها المستحقة على العراق لقاء تصدير الكهرباء” والقائمة تطول.

هاشم الحيدري
 هاشم الحيدري

لا تبحث هذه الورقة قضية مصداقية المعلومات التي تقدمها “الجيوش الإلكترونية” من عدمها، فهي قضية تحتاج بحثاً مستقلاً وتحليلاً للمعلومات، لكن يمكن تلخيص القواسم المشتركة بين هذه “الجيوش” بما يلي:

أولا: أنها تحرص على أن يبقى التنسيق المشترك والكواليس سريّة .. لذلك يصعب إكتشاف هذه التجمعات إلى عبر السقطات أو الفضائح كما في مصر، أو التقارير الأجنبية التي تستخدم تقنيات حديثة لاكتشاف هذه الجيوش كما في السعودية.

ثانيا: السرية هي كلمة سر نجاح المهمة، لأن الأطراف المشغلة لهذه الجيوش وصلت إلى قناعة بأنها مرفوضة من المتلقي إذا هي صدرت خطابها بشكل معلن، وهنا تكمن أهمية “الدعاية السوداء” التي يميزها عن “البيضاء” أن الأولى لا تصارح المتلقي بهوية المُعلن، ولا تصارحه أنه يتعرض لدعاية.. بل تمرر له الرسالة من طرف يفترض المتلقي أنه مستقل، وفي حالة لا يكون المتلقي فيها مدركاً أنه يتعرض للدعاية، ولهذا يتزايد الطلب على شراء المدوّنين والإعلاميين “المستقلين”، وترتفع أثمانهم عن أقرانهم مكشوفي الولاء. [والمنشور هنا يستثني الحديث عن الصفحات الرسمية للسياسيين والأحزاب والحكومات باعتبارها منصات إعلامية بيضاء لا تدخل ضمن مصطلح الجيش الإلكتروني أو اللجان بعد أن عرفت عن نفسها وأصبحت قرينةً للفضائية أو الصحيفة الرسمية].

ثالثا: التجنيد الإلكتروني قد تنخفض كلفته كلما كانت قائمة المدوّنين أكثر احترافاً، فالجندي الإلكتروني البارع يستطيع تجنيد المزيد من الجيوش الإلكترونية مجاناً.. عن طريق العزف على عواطفهم ومخاوفهم وتحشيدهم طائفياً أو عرقياً، وإلا فإن المجموعة المغلقة التي كان يديرها الجارحي وزملاؤه الواحد والعشرون في مصر كانت تضم اكثر من 15 ألفاً من المدونين، يستحيل أنهم جميعاً كانوا يتقاضون عوائدَ لقاء اشتراكهم في النشر، وأغلب الظن أنهم كانوا ينطلقون من منطلقات وطنية في اشتراكهم باللجنة الإلكترونية. ولم تكن مهمة “الآدمنز” هنا سوى استغلال حماسة هؤلاء وتوجيهها نحو القضية الملائمة للسلطة.. وكذا بالنسبة للجان المعارضين من الإخوان أو النشطاء.

15424580_1207780729301879_1544710376_n

رابعا: فرض “الهاشتاق” المناسب يختصر نصف طريق نجاح المهمة، لذلك مثلاً كانت الجيوش الالكترونية في السعودية “تغرق” الهاشتاق المطلوب بالتغريدات، كما في هاشتاق المنحة السعودية لمصر، وبهذا يسيطر الجيش على “حديث الرأي العام” لهذا اليوم، وينتقيه ثم يأتي دور فرض وجهة النظر الملائمة ليكمل المهمة، وإلا فإن منحة تقدمها دولة لأخرى كان يمكن أن تمر بلا أي ضجيج، خاصة في بلد مثل السعودية لم يعتد لا إعلامه ولا رعاياه على مساءلة السلطة حول الأموال أو حتى معرفة موارد صرفها.. وهو بلد متهم بتمويل أغلب الجماعات الاسلامية المسلحة، لكن 10 آلاف تغريدة مزيفة متزامنة كانت كفيلة بتحديد “موضوع نقاش اليوم” على السوشيال ميديا السعودية .. دون أن يعرف المتداخلون مَن فرض عليهم هذا الحديث، ولماذا لم يكن هناك حديث عن أي مليارات أخرى خلال المئة عام المنصرمة مثلاً.  

خامسا: التضليل والإشاعة والأكاذيب جزء من عمل الجيوش الإلكترونية، لكنه ليس مهمتها الرئيسية، وإذا كان هناك وظيفة دقيقة يمكن نسبتها لهذه الجيوش فهي “التزييف”.. لأن أصل العملية هو إيهام المتلقي بوجود ما هو غير موجود، أولاً إيهامه بأن هناك 10 آلاف انسان يتحدث عن قضيةٍ ما، ثم إيهامه بأن هؤلاء الآلاف يتحدثون من تلقاء أنفسهم، وأن ما يكتبونه هو وجهة نظرهم التي اجتمعت بالتوارد البريء، وبهذا يواجه المتلقي –البريء- ضغط الأغلبية المزيّفة الذي يؤثر حتماً في طريقة تفاعله واتجاهه، كم شخصاً سيتمكن من التفكير باستقلال ثم التعبير بحرية عن رأي يخالف ألف شخص يتحدث أمامه؟ هذه هي الأغلبية المزيّفة التي تؤثر بخيارات الأغلبية الحقيقية.. الأغلبية الضحية.  

على صفحة الوظائف الشاغرة في موقع “العربي الجديد” المقرب من قطر، ليس هناك أي وظائف شاغرة، إلا وظيفة “مسؤول مواقع تواصل اجتماعي”. وفي 2014 انتشرت في الجامعات العراقية فرق البحث عن الموظفين الإلكترونيين، وتم توظيف العديد من الطلبة لإدارة صفحات وكتابة تعليقات ومنشورات مؤيدة لقاءَ عوائد تصل إلى 400 دولار، في النهاية.. هذا المكان لم يعد تلك الصحراء العذراء التي كانت تقصدها جحافل الهاربين من هيمنة المال السياسي على التلفزيون والصحف.. لأن ذات المال هناك انتقل للهيمنة هنا ولصالح ذات الأطراف، لكن بالأدوات المُبتكرة والاحترافية هذه المرة. 

لا يُمكن إيصال ما ورد في هذا المنشور لكل متلقٍ في “السوشيال ميديا”.. وبهذا لن يمكن –على المدى القريب- أن يتم تحييد هذه الجيوش أو “إبطال سحرها”، خاصةً وأنها تعيش فترة شبابها، وفي ذات الوقت لا يُمكن أن تُترَك لتفتك بوعي المتلقين تزييفاً وتوجيهاً.. ما يُمكن فعله حالياً هو “استعادة اليقظة والإنتباه”.. ذات اليقظة التي يتعامل بها المتلقي مع الفضائيات والصحف والبحث عن مالكيها ومموليها.. ينبغي أن تُستصحب إلى التعامل مع صفحات التواصل الاجتماعي، لأن التعامل مع هذه الصفحات على أنها مجرد “مساحات تعبير بريء عن الآراء” لم يعد حكيماً.. ما يحصل هنا بالضبط –وبحسب ما تقدّم- حرب إلكترونية واسعة.. حرب وجيوش ومال.. وما في جمجمة المتلقّي -الذي يقلّب نقّاله بين إصبعيه- هو الجائزة.  

إقرأ أيضا