حرب المثقف العراقي وهويته

دون الخوض في تعريف الثقافة وتحديد هوية المثقف العراقي، يمكن الاكتفاء ـ صحافيا على الأقل ـ بالقول إن متعاطي الشأن الثقافي في العراق يشابهون متعاطي الشأن السياسي (الإداري ـ إدارة البلاد) فيهم من يعانون الأمراض نفسها وتظهر عليهم الأعراض نفسها.

أول أمراض السياسي في العراق أنه ركب مطية أشباه الأحزاب للوصول إلى المنصب الإداري، دون التفكير في صناعة المؤسسة الرسمية، بل لم يفكر في صيانة المؤسسة الموجودة أصلا، حيث فقدان أبسط مقومات المؤسسة، وهو الشعور بروح الفريق والعمل الفرقي، وأول أعراض هذا المرض هو (الدوخة) والحيرة في إدارة المؤسسة والنزول حاملا مكنسة للوقوف أمام سيول المطر وعدسات الكاميرات.

متعاطو الشأن الثقافي في العراق لا يميلون إلى العمل الفرقي، ولا إلى اعتماد العمل المؤسساتيّ المدني، ويعمل من يعمل منهم ثقافيا بشكل منفرد؛ يطبع كتابا، يخرج مسرحية، يقيم ندوة، يواضب على نشر مقالاته الثقافية. العمل الثقافي المؤسسي لم يبدأ حتى اليوم في العراق، ربما لأن الانتظام في عقد المؤسسة المدنية أو الرسمية ما يزال يشعر المثقف بالخوف والقلق من الانتماء، وكأنه مؤمن بكولن ولسون وبلا منتميه.

الانتماء للوطن جزء من هوية المثقف، ومن لا يجيد الانتماء إلى وطنه لا يمكنه الانتساب إلى الإنسانية والكونية، فتجاوز حدود المحلية والوطنية يستلزم اكمالها مرحليا للانتقال الى مرحلة ما بعد اللامنتمي، أيضا. ومثلما تبدأ إرهاصات صراع الهوية من الوجود الذاتي إلى الوجود ضمن المنظومة الاجتماعية الوطنية فالمنظومة العالمية الكونية، تبدأ المؤسسة من الشلل الثقافية في المقاهي والصالونات والتجمعات الثقافية والملتقيات الأكاديمية والمعرفية، لتتشكل بعدها مؤسسات المجتمع المدني تواكب الحراك الرسمي وتوجهه وتتحاور معه من أجل قيادته والارتقاء به إلى مصاف التحضر وصناعة الانسان، بتشكيل هويته. عندها يعرف المجتمع معنى النخبة في كل مجالاته الإبداعية والعملانية، ويقدرها ويسعى إلى تتويجها من أجل استقرار الانتماء والاعتزاز بالهوية.

لا ننكر ـ وإن لم نكن ماركسيين ـ دور الآلة في المجتمع الصناعي، وتأثير التكنولوجيا في توجيه التشكلات المعرفية إلا أن التجارب الثقافية والحراك ضمن التخصصات الإنسانية في الآداب واللغات والفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع والانثروبولوجي، وفي الفنون والمجالات الإبداعية الأخرى هي من يصنع هوية الأمم، على اعتبار ان الامم قد تستورد طعامها وألبستها ومستشفياتها من أمم أخرى وقد يستساغ ذلك منها ما دامت تصنع هويتها المحلية في الثقافة والفنون والآداب.

أعرف أن العراق محتاج إلى شركات عملاقة لا تطلب إلا تمويلا مجزيا وقوانين ضابطة ضامنة لبناء مدن العراق وجعل المواطنين العراقيين في قمة الرخاء الحياتي، لكن العراق محتاج إلى من يعمل على تأكيد الهوية الوطنية وإلى القيم التي تجعل العراقي عراقيا في هويته وانتمائه، وهو ما لا يمكن استيراده، لأنه عمل مرهون بالمثقف العراقي الذي يشكو كمتعاطي الشأن السياسي من (دوخة) الفردانية والفوبيا من العمل المؤسساتي.

سأقول بشكل مباشر لكل مثقفي العراق: لا تدعو الثقافة وأنتم تعملون منفردين: إنه مضماركم، إنها مهمتكم التي لا ينبغي لغيركم النهوض بها، إنها هويتكم هوية العراق التي أنتم صناعها، وما لم تنظموا عملكم ضمن مؤسسات مدنية متنوعة فلن يجدي العمل الفردي شيئا. الهوية في تأكيدها وانتصار قيمها مثل الحرب لا ينتصر فيها القادة ما لم ينظموا صفوفهم، ويحددوا استراتيجياتهم ويضبطوا إيقاع أسلحتهم وصنوف مقاتليهم والجبهات التي يقاتلون عليها، فقادة الثقافة أكبر تأثيرا من قادة المعارك السياسية والحربية. وخسارات الحروب أخف وطأة من خسارة الأمة لثقافتها وهويتها الإنسانية.

إقرأ أيضا