بنهاية كل سنة مالية يخرج السيد المالكي بتصريح انفجاري يبشر فيه شعب القتلى والأرامل والأيتام والجياع والمتسولين والمظلومين بأملٍ قادم. وفلسفة ذلك الأمل تأتي بلا شك من قدرة على الكذب مروعة، يجيد صياغتها صناّع القرار والمؤتمنين على قوت الشعب. ودائماً ما تكون تصريحات المالكي بهذا الشأن هي مجرد أوهام وتكاد تكون بلا قيمة حقيقية.
فميزانية العراق ليست أكثر من وديعة في بنك حكومي يخطط لسرقتها بضعة لصوص في وضح النهار، وينجزون مهمتهم سنوياً على مرأى ومسمع شعب غلبان ومخدوع ومخدر من قمة رأسه حتى أخمص قدميه.
أحاول دائماً أن أجد تفسيراً واضحاً لجملة (ميزانية انفجارية)، هل تعني شيئاً يشبه قنبلة صوتية، أم أنها تعني صراخا هائلا في فراغ، أم هي جملة عابرة تصلح لتكون حشواً لغوياً في خطاب فارغ من المعنى والقيمة؟.
وبما أن قيمة الشيء الحقيقية هي في وجوده على الأرض، فأن جملة ميزانية انفجارية هي بالتأكيد تصلح لتكون عنواناً لفيلم سينمائي، يكتبه سيناريست فاشل. لأن الحديث عن ميزانية دولة تحترم نفسها وتحترم شعبها لابد أن يكون في إطار حسابات علمية دقيقية ومدروسة، لا أن يكون في مضمار المزايدات السياسية ومعارك البوكسات والشتائم في برلمان يحتضر.
وأكثر من ذلك، فإن الميزانية الحقيقية يجب أن تراعي في صياغة مفهومها العام تحقيق مبدأ كرامة المواطن أولاً وأخيراً، لا أن تراعي أنياب الأحزاب المتسلطة ولعابها القبيح.
أسمع ويسمع الجميع، بأن ميزانية شعب كبير مثل الشعب المصري لا تتجاوز الستة والثلاثين مليار دولار سنوياً. وميزانية بهذا المبلغ المتواضع لا يمكن أن تؤدي الحدود الدنيا من حاجات شعب تعداده ثمانون مليوناً. ورغم ذلك بإمكان أي أعمى أن يلمس عمران المدن والشوارع والمرافق العامة هناك. والشيء نفسه عن ميزانية الأردن التي لا تتجاوز الخمسة مليارات دولار سنوياً.
واليوم إذا ما رغبت بزيارة القاهرة أو عمّان بدعوة من أصدقاء هناك، سيكون بإمكان هؤلاء الأصدقاء أن يخرجوا معي بنزهة في شوارع مدنهم النظيفة والعامرة وهم مرفوعي الرأس من دون أن يعانوا مثلي من داء مزمن، اسمه الخجل من بغداد.
لكنني أريد أن أقلب الصورة، وأفترض أن ضيفاً عربياً أو أجنبياً حلّ على بغداد وطلب من السيد رئيس الوزراء أن يأخذه بجولة في شوارع بغداد وساحاتها وأسواقها ومعالمها فلأي ساحة وأي شارع وأي طولة سيمّر رئيس وزرائنا بضيفه الأنيق؟
أعوام مرّت وميزانياتنا الانفجارية ليست اكثر من هواء في بالون شفاف. لكن يقال والعهدة على من قال بأن ميزانية العام المقبل ستكون نووية وستبلغ مائة وخمسين مليار دولار. وهذا يعني أننا مقبلون على أيام سوداء وكالحة، أيام يمكن أن نخضع فيها لحسابات قد تصل حد إهانة الذات والنكوص نحو بذاءة لسان نقتلع فيه الموتى في قبورهم.
الرقم مخيف، وما سنجنيه منه ليس أكثرمن أمراض مزمنة وشلل في التفكير. والسؤال ببساطة ومن دون وهم بالمعرفة هو؛ الى أين ستذهب ميزانية العراق بملياراتها المائة والخمسين؟ وليس أجمل ولا أسهل من حساب المواطن العراقي البسيط لهذه البلوة وهو حساب عرب.
سأجلس على البساط وأتربع، وأبدأ بحساب عرب لميزانية عام 2014. وسأضع جانباً مهاترات السياسيين ولغاويهم المزعجة بشأنها. وكذلك سأترك لغة القيود والمقاصات الحسابية لأهل الإختصاص المغيبين أساساً. سأعطي وبسخاء مبلغ خمسين مليار دولار كميزانيات تشغيلية للدوائر والمؤسسات الحكومية. وهي بطبيعة الحال تذهب بنسبة 99% كرواتب خارقة للعادة لمسؤولي الدولة العراقية. وسأقسم المائة مليار المتبقية كالتالي: خمسون مليار لجيوب الحرامية من ساسة ومسؤولين ومقاولين. وخمسة وعشرون مليار توزع بالتراضي بين الرئاسات الثلاث لما يسمونه منافع اجتماعية. ستبقى حتماً حصة الشعب العراقي من هذه الميزانية مبلغاً قدره خمسة وعشرون ملياراً نقداً وعداً. وهو مبلغ سيرضى به الشعب اذا ما توفرت له إدارة حقيقية وفاعلة من الممكن أن توزعه بالصورة المثلى. وسأضمن بذلك ولادة حالة من الإكتفاء والبحبوحة في مجالات الصحة والتعليم والسكن.
نعم، لا نريد سوى خمسة وعشرين ملياراً من ميزانية السيد المالكي الانفجارية على أن يضمن لنا سلامتها بعيداً عن أنياب ومخالب الوحوش البشرية، ومحالل وماهوب هو وأخوته في النضال، بالمائة والخمسة والعشرين ملياراً .
اعطونا فقط هذا الفتات وسنعيش بأحسن حال، أبعدوا عنا لعابكم وعيونكم الوقحة وستجدوننا نلبس أحلى الثياب وسنأكل ما لذ وطاب. وتأكدوا أن هذه ليست أمنية شعب فقير، بل هي مطلب حقيقي وواقعي. خذوا ميزانيتكم واعطونا ميزانيتنا. تلك هي صرختنا الأخيرة.
*كاتب عراقي