محزن ان الأجيال التي نشأت على ايقاع قصف مدافع الحروب وجوع الحصار ثم مصائب الاحتلال وما تلاه لم تعرف قط بغداد أيام زهوها. لم يذق هؤلاء طعم السير على الأقدام في شارع الرشيد، وهو قطعة نادرة من تاريخ بغداد، ولم يعرفوا معنى ان تقطع تذكرة للدخول الى سينما روكسي او الخيام، عندما تطفأ الأنوار في الصالة ليبدأ السحر بالمرور أمام ناظريك فتحلق روحك عاليا معه. هي تجربة فريدة لا علاقة لها بمشاهدة شريط سينمائي على شاشة التلفزيون تتابعه وانت في بيتك تشرب كوبا من الشاي او تتبادل الحديث مع من يجلس بجوارك.
لم تعرف هذه الأجيال البصرة قبل ان تدكها مدافع الحروب المتتالية، وقبل ان تطيح بسماحة أهلها وطيب معشرهم، نفوس تغطي مباذلها وجرائمها بمحاربة كل جميل ومضىء في الحياة. يومها كانت البصرة قبلة أهل الخليج ومدينة يقصدها العرسان من أبناء الطبقة المتوسطة لقضاء شهر العسل. لم يعرف هؤلاء متعة المرور بذلك الممر الساحر المحاذي لنهر الفرات الذي ينقلك من هيت الى حديثة صعودا حتى آلوس وما بعدها. كان هناك جمال مذهل لطبيعة وادعة وأليفة ألفة نهر الفرات، وهو نهر غير صخاب ينساب انسيابا وسط المزارع والبساتين وغناء النواعير.
لم ير هؤلاء بعقوبة يوم كانت بحرا من الخضرة تتدلى من أشجاره مصابيح البرتقال والليمون وهي تفتح ذراعيها للزائرين من العائلات وطلبة الكليات، يتجولون في شوارعها ويدخلون بساتينها وهم يغنون ويرقصون ولا أحد يرى في ذلك عيبا او منقصة. كان ذلك يوم لم يكن الاستمتاع بمباهج الحياة نقيضا للايمان والتقوى.
أعرف ان استعادة كل ذلك مستحيل، وان الزمن قد دار دورات عنيفة متتالية فأفرغ من حياتنا جمالها وانفتاحها وسماحتها. لكنني أعرف أيضا ان اصلاح الخراب ممكن وان اصلاح خراب الأرض وتغيير نمط الحياة يقود الى اصلاح النفوس. أعطوا العراق خمس سنوات فقط كي يعيد بناء مدنه الخربة ويصنع لابنائه شروط حياة تليق ببني البشر، وتذكروا مدن الخليج الشامخة التي نبتت في صحراء قاحلة في غضون سنوات قلائل وكان أهلوها آنذاك بلا خبرة تذكر. وفي العراق خبرات كثيرة وأموال هائلة الحجم ويمكن لكبريات الشركات الأجنبية ان تتنافس على هذا الكنز الخرب المسمى عراق.
في غضون سنوات ثلاث لا أكثر يمكن اعادة تأهيل شارع الرشيد بالكامل ليتحول الى مركز تراثي عريق. ولن يستغرق اصلاح الكهرباء أكثر من هذا الزمن ولا شأن لي بما ستؤول اليه تجارة المولدات الرائجة. وفي عام واحد يمكن للبصرة ان تستبدل ماءها المالح بماء عذب زلال. وفي هذه السنوات الخمس يمكن اقامة مجمعات سكنية في كل أنحاء العراق وبناء ألوف المدارس وتعبيد الطرق المتهالكة واصلاح شبكة المجاري التي تتفجر على الناس صيفا وشتاء. وتخيلوا معي كم فرصة عمل سوف تتوفر لهذا الشباب الذي يتكدس على الأرصفة ليبيع للمارة القمصان والجوارب او يقتطع من قوته ليدفع رشاوى كي يحصل على وظيفة توفر له دخلا لكنها لا توفر له عملا يؤديه.
هو حلم ممكن تحقيقه بشرط واحد هو ان تزاح عن المشهد وجوه الفاسدين والفاشلين والجهلة كي يبني العراقيون دولة مدنية حديثة.