تعد موضوعات الحداثة، والهويات الثقافية والدينية، وعلاقات الغرب والشرق، وتأثيرات الحضارة الكونية من ضمن أبرز اهتمامات المفكر الإيراني داريوش شايغان (1935- 2018). كما تمضي بعض كتبه كـ”النفس المبتورة” في تحليل علاقة الفكر التقليدي المهيمن في مجتمعاتنا الإسلامية بمنجزات وقيم الحضارة العالمية، ما ينتج مشكلات في الهوية، وظواهر تغريب، واختلال في زاوية النظر إلى العالم.
قبل وفاة شايغان بعامين، تحدث في الحوار أدناه، عن تلك الموضوعات، وبمزيد من الصراحة عن أحوال مجتمعاتنا في ظل سريان قيم الحداثة في أرجاء الكوكب، وتداعيات التأخر التاريخي لدينا، كما مر على هاجس الإنسان الغربي اليوم، ومستقبل البشر ككل.
*هل ينبغي أن نأخذ عنوان كتابك “النور يأتي من الغرب” حرفياً؟
نعم وكلا! العنوان يرمز إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، لأن هذا العصر هو لحظة فاصلة في تأريخ البشرية، وفيه أدرك الإنسان حريته وحقوقه، ووفقاً لـ كانت هو الفترة التي أراد فيها التخلص من السلطة المشتركة والمراقبة -عظمة القوة وفضيلة المقدس- ومن جانب آخر، ولكي تزدهر الفردية وحتى الروحانية، وهذه مفارقة، ينبغي أن يعيش الإنسان في بيئة علمانية، وتحت سطوة دولة القانون والحماية التي توفرها تشكيلاتها الديمقراطية العقلانية. وأعتقد أن مغامرة الحداثة وحركتها لا حدود لها في تحرير الإنسان. في العالم الإسلامي، يتخطى الدين مجال الخصوصية بشكل متزايد. ومن الضروري الإشارة إلى أننا لا نستطيع الحصول على مجتمع مطهر من امكانية التقهقر إلى رؤى الأسلاف قطعاً دون تفريق قاس بين المعرفة والايمان. ولا الوصول إلى فهم دنيوي للديمقراطية دون علمنة أربعة قرون. لم نكن سنرى العلوم الطبيعية لولا رياضيات غاليلو وصراع الثورة الكوبرنيكية الكونية، وأن نعرف تطور الأنواع والنشأة لولا صراع بيلوجي، وأن نكتشف آليات اللاوعي المظلمة دون صراع نفسي. هذه الأمور الثلاثة الشديدة التأثير تشغل وعي الإنسان الحديث كما يراها فرويد.
* وفي العكس تماماً، هل لا يزال موضوع “الغرب والآخرون” حاضراً؟
لا يوجد مثل هذا الطرح الآن، قبل سنوات كان “صراع الحضارات” موضوعاً راهناً، ووفقاُ إلى هنيغتون صاحب الاطروحة أن العالم سيكون مسرحاً لصراع العديد من الحضارات الكبرى. وحقيقة الحال، لم تعد هذه الحضارات تعود إلى العالم القديم، ولنا مثال بمشاهدات ماركو بولو (تاجر ورحالة إيطالي. المترجم) ووصوله إلى الصين في القرن الثالث عشر. في أيامنا، لا تكفي الحضارات نفسها بنفسها، ولا تدور في فلك تواريخها الأصلية، بل أصبحت في نطاق الحساسيات المختلفة بنسق عالم الحداثة المنتصر. عند الحديث في الوقت الحالي عن الحضارات غير الغربية، وحسب فهمي، ينبغي دمجها في الشبكة السامية للحداثة المنتشرة في كل مكان، والتي لا تستثني أي ركن من أركان الكوكب.
وبناءً على ذلك، نحن نعيش في نطاق التهجين والاختلاط. والحضارة البكر كتأريخ خيال محض. لقد دُهشت من نجاح كتابي “النور يأتي من الغرب” عندما نشر في اللغة الفارسية. لأول مرّة -على الأقل في إيران- تتهجن ثنائيات “الغرب -الشرق” و”التقاليد- الحداثة”، وتتلاشى في الأفق الواسع للثقافات الكثيرة والهويات المختلفة. تبين أن المجتمع الإيراني متطور بالفعل، وتعرّف الناس هناك على أنفسهم، وكأنهم اتفقوا مع بودلير: فلتسكُب لنا سُمّك لينعشنا / فنحن نريد، وهذه النار تحرق عقولنا / أن نغوص في قاع الهاوية، أو الجحيم، أو السماء، ما الفرق؟ / في قاع المجهول، لنعثر على الجديد!
(شارل بودلير- الأعمال الشعرية الكاملة، ترجمة رفعت سلام، 442 ص).
* في كتابكم “الوعي الهجين” تقولون: للأفضل أو للأسوأ، نحن غربيون جميعاً. ماذا تقصدون بذلك؟
في الحقيقة، أشعر أنني “شرقي” في الإحساس والوجدان، وغربي في ارتباطي بالقيم العالمية ووجهة النظر النقدية. وتفصح هذه الحالة جيداً “الشيزوفرينيا” إذا جاز التعبير التي وجدتُ فيها، كالعديد من مواطنيّ. كل اختزال (رجوع) بطريقة ما – الأسطورة والعقل – يمكن أن يكون سبباً في الوقوع بمأزق ما.
في قناعتي، أن مسألتي بثلاث طبقات، (إيراني، ومسلم، وذو هوية حداثية)، وأن كل مستوى يقدم لي إمكانيات فهم جديدة بشرط عدم نسيان أن كل مستوى له تفسيره الخاص. على سبيل المثال، المفتاح الذي يفتح لنا فكر هيجل ليس هو المفتاح الذي يفتح لنا عوالم شاعر صوفي مثل حافظ الشيرازي.
يتيح وعينا أن نستخلص معرفة كل قرن، وأن نستخدمها في حدودها الخاصة. وهذا هو الجهد لتعزيز المتحد في النطاقات غير المتجانسة. ويصنع مساراً ثالثاً يمكن تسميته “الفصام الخاضع – المروض – المدجن”. وفي رأيي هذا طريق يفتح لنا امكانية عدم اختزال المعرفة، والنجاة من وهم اليوتوبيا المستحيلة (على سبيل المثال أن نصنع من الدين أيديولوجيا).
* هل نساهم في انهيار الحضارة الغربية أو العكس من ذلك، نحن نقدم الإضافة في سريان قيمها في كل العالم؟
باتت الحضارة الغربية جزءاً لا يتجزأ من الحضارة العالمية الشاملة. كل هوية خاصة تنكر الأخرى، وكل مقاومة ضد مكتسبات التنوير محاولة جسيمة ستدفعنا إلى الرجعية. وتقصي نتاج الحداثة مثل الحريات الفردية وحرمة الفرد: أعتقد في الوقت ذاته أننا أحياناً نرفض الهوية الجديدة التي تتداخل مع الهويات القديمة التي نحملها في داخلنا، وتأوي في ذهننا دون أن نعرف ذلك.
وهذه، ظاهرة اسميها التغريب في اللاوعي بدلاً من كونها في الوعي، لأنها هوية جديدة ومستقلة ومزودة بملكة النقد الكامل. أتذكر أنني سألتُ مفكراً تقليدياً إيرانياً كبيراً ذات يوم، لماذا لا تكتبون كتاباً عن تأريخ الفلسفة الإسلامية؟ قال هكذا: أنا عاجز عن ذلك، لأنني بالذات مثال شاخص عن الموضوع. إجابة تدعو للتأمل. كان يقصد عدم القدرة على وضع مسافة. فلا يمكن أن يتم التفكير بالتراث الفلسفي وحده من دون تلك المسافة، وسواء أردنا أو لا، فأن هذا التراث هو نتاج التفكير النقدي.
* إذا كان الغرب قد أنتج (الديمقراطية، ودولة القانون، والتقدم)، فأنه أنتج أيضاً (الاستعمار، والعبودية، والحكم الشمولي كالفاشية والنازية). كيف تفسرون هذا التناقض؟
صحيح هذا القول، الغرب أنتج الديمقراطية ودولة القانون، بينما الوجه الآخر للعملة هو الاستعمار والأيديولوجية الشمولية. لقد تحدث ديكارت عن فكرة القوة، وأن الإنسان هو سيد ومالك العالم، وتم تجسيد ذلك بالفعل في تقدم الغرب وسيطرته.
وستؤدي هذه الفكرة إلى الثورة الصناعية مع جميع نتائجها المعروفة. كتب كلود ليفي شتراوس في كتابة “العرق والتأريخ والثقافة” أن البشرية شهدت أعظم ثورتين، هما الثورة الصناعية وثورة العصر الحجري الحديث، اللتان خلقتا ردود فعل متسلسلة في كل جوانب الحياة الإنسانية. وكما معلوم، أن الثورة الصناعية هي النتيجة الحتمية لبروز روح العلم.
وصحيح أيضاً أن خطاب الحداثة قد شكّل الإطار القانوني والسياسي للإنسان. وهناك جوانب أخرى في الحياة – دعني أسميها داخلية – تبقى خارج مناطق التأثير. ويُنظر لها بحق كشؤون خاصة ينبغي على الجميع تنظيمها. وبسبب ذلك هناك فجوة، والمجال الديني يؤثر بشكل متزايد عليها. ومثلما أكد ماكس فيبر (1864-1920). “اليوم، أفلتت فطنة الزهد من قفصها، ولا أحد يعلم حتى الآن من سيعيش في القفص مستقبلاً، في نهاية هذا الطريق النبيل ستظهر نهضة مُثل مقتدرة وفكر قديم، أو ينبثق أنبياء بظهور جديد”.
* برأيكم، من أين تأتي كراهية الغرب الحديثة؟
تنبع كراهية الغرب – على الأقل في العالم الإسلامي – من الفشل التاريخي الذي يغذي البغض والإهانة. والإسلام وفقاً لأيمان أتباعه هو آخر وحي نبوي، ويتفوق من الناحية الميتافيزيقية على الدينين الإبراهيميين الأخرين اليهودية والمسيحية.
وبرأيي، إن الضيق الذي يشعر به العالم الإسلامي تجاه الغرب ينبع من الجهل أو عدم استيعاب ظاهرة تأريخية كبيرة: أخذ في الاعتبار أن ظهور الحداثة هو إرغام على انقلابات جذرية في تقاليدنا وأنماط حياتنا، ولم يتم أخذها كما هي في الواقع، وبسبب ذلك أصبح كل حكم ضدها يحمل بعداً أخلاقياً، حتى انتهى الأمر إلى الرفض. وفي هذا الشأن دعونا نذكّر بأن أوروبا نفسها كانت قد بدأت برد الفعل ضد التنوير.
في القرن الثامن عشر كان التمرد الألماني ضد هيمنة اللغة والثقافة الفرنسية في عموم أوروبا. وروح التمرد نفسها جاءت بعد قرن، تلك التي ثبّتت المدافعين عن قيم الثقافة السلافية المضادة لقيم الغرب، ومنهم كتاب روس عظماء مثل تولستوي ودوستويفسكي. وأيضاً هو الرفض نفسه منذ منتصف القرن العشرين عندما سيُنقل إلى دول العالم الثالث والتسبب بحالة أسميها الانكفاء وخلل الهوية معاً مع الثورة الإسلامية الإيرانية في 1979، حيث ستأخذ مطالب الهوية أشكالاً مختلفة.
* من هم معادو الغرب اليوم وماذا ينتقدون؟
معادو الغرب هم أناس عجزوا عن فهم آلية عمل التأريخ. وعلى الأغلب يعيشون في وهم جماعي ويعبرون إلى جهة تاريخية معاكسة، يفكرون باستعادة الأساطير المؤسسة أو كما أسماها الفيلسوف الروماني سيوران بـ”وثنية البدايات”. هم السلفيون المتشددون الذين يأملون استعادة العصر الذهبي للسلف الصالح، أوائل المسلمين في الاسلام. ينتقدون جهاراً التصدعات التأريخية التي يظنون أنهم ضحايا لها، ودون بذل الجهد في محاولة فهمها أبداً.
* ومن زاوية نظر هؤلاء، ألم يصبح الغربيون أطفالاً مدللين يعيشون كل شيء ويعرفون فقط كيف يعملون ذلك؟
ربما، وكما تقول باتوا أطفالاً مدللين. نقد الديمقراطية في الغرب يغطي على كل الوجوه السلبية التي تدفع إلى التحنّط من رهبة الفراغ. وكما يقول باسكال بروكنر “التحنط والتحنيط يُغرق في الإطراء بشتى المعاني”. وعلى سبيل المثال، ووفقاً لأوليفييه مونغين أن أحد السمات المهيمنة عند الإنسان الديمقراطي هي الخشية من الفراغ. وأن هذه الفجوة – الفراغ تخفي الضيق وعدم السكينة: ان القصور في الديمقراطية لن يمنع خلق قيم مشتركة، وينتج تأريخاً لا يستبيح الفردانية والسوق. وكما يشير الفيلسوف جان بودريالار، ان نهاية هذا التأريخ سيوصلنا إلى ما بعد عصر إشاعة الحريات.
* ماذا سنفعل بعد عصر إشاعة الحريات؟
عندها يبدأ تكرار وتجسيد السيناريوهات التي تم لعبها سابقاً ونعمل المحاكاة، ورغم أن اليوتوبيا تحققت فمن الضروري الاستمرار في عيشها كما لو أنها موجودة. حسناً، ومن كل هذا، ماذا يعني ذلك للأشخاص الذين لم يحققوا تلك الأحلام، ولم يستثمروا هذه الأفكار النبيلة في الحياة؟ كل شيء في هذا العالم بحال التصميم، ولا يمكن إفراغه من جوهر الوجود، بل على العكس هو غزير بالأفكار والمشاعر، والشغف الذي ينتظر منا الجهوزية. في الغرب تأتي هذه الأحلام قليلاً في حال الاستحالة، ويستخدمها الأفراد في نيل الحقوق المكتسبة، ويتمتعون بفوائد امتيازاتها، ولا يعلمون كم مدى استحالتها عند الآخرين.
* ألا يخشى الإنسان الغربي فعلاً؟
أعتقد أن الخوف بما يسمى انهيار الغرب يتعلق بالعودة إلى مظاهر مختلفة من الروحانية. وهناك كثيرون يرون ذلك، شعراء السقوط ورُسل غسق الآلهة. يقول نيتشه أن العدمية مخفية في فكرة التقدم. ويرى شبنجلر انحدار ثقافة فاوست، ويقدم هيدغر حججاً كثيرة حول نهاية الفلسفة. وكنتيجة لذلك، تتوالى بسرعة لا تحصى اطروحات النهاية.
ومن جانب مشابه، لو استثنينا أتباع “العصر الجديد” فأننا نشهد تفشياً رهيباً لطوائف كبيرة، مثل كنيسة السيانتولوجيا (الكنيسة العلماوية)، وطائفة القمر، وشهود يهوه، والأكروبوليس الجديد، وتلاميذ كريشنا. يبدو أن الإنسان المعاصر يعاني من اللاعقلانية التي دفعتها قرون العلمنة إلى اللامبالاة. وان انتشار الطوائف في المجتمع الغربي بهذا القدر يُظهر الفراغ الذي لم تستطع المسيحية المتعلمنة بلا شك أن تملأه، وتلبي الحاجات الروحية لأولئك الذين اختنقت أرواحهم ويعانون الضيق.
تخلق كل تلك التناقضات تنافراً، وشكاً يمكن وصفه بالخوف. خشية من ضياع شيء ما. كما لو أن ما يسمى بالتقدم كان يدفع الإنسان إلى تضييع البوصلة، ويمضي بنا إلى قيم الأسلاف بدلاً من مستقبل مشرق. ووفقاً للصحافي والكاتب جان كلود جيلباود إذا كان الغرب عالقاً في اللامعنى أو الفراغ المطلق، فبسبب نسيان التساؤل، وأنه قطف ثمار حداثته كامتياز وليس إلى شك. وأقول أنا: إن الغرب ترك تطبيق ممارسة النقد حول نفسه، مع أن النقد هو من صنعه.
* ونحن في ذروة الغرب، هل هناك ثقافة ما، اليوم، قادرة على الاستجابة للتفتح الواسع في وعي الإنسان؟
اعتقد لا توجد ثقافة قادرة على ذلك، ومن خارج هذه الحداثة الشاملة التي لا تعيد تقييم تراثها وماضيها فحسب، وانما تراث البشرية ككل، نظراً إلى ذاكرتها الموجهة إلى التفاصيل وقدرتها الاستعادية. ومن هذا، وحسب رؤيتي – الغرب وولادة الحداثة – ينبغي أن تظهر نقطة تحوّل يمكن أن تكون روحية فقط. لأنه، ومثلما قال فاغنر بارسيفال: الرمح الذي يجرح هو من يشفي الجرح فقط.