* آخر كتاب مطبوع هو (انا وهم) وهو كتاب مضاف لسلسلة كتبك عن الدكتاتورين. احس من كتاباتك عنهم كأنك تجد نوعا من المتعة في الإقتراب منهم والكتابة عنهم؟
– نعم صحيح.. انها متعة اكتشافهم والتسلط عليهم من خلال الكتابة بمقدار ما تسلطوا علينا في الحياة الفعلية. خلال الكتابة عنهم أخرجهم من داخلي ومن كوابيسي. لكثرة ما دققت فيهم أشعر إني صرت أعرفهم حتى دون أن أقابلهم. وأشعر بالمقابل أنهم صاروا يعرفوني بالإسم ويصححون خلال الكتابة صورتي عنهم، أو يحذرونني حين أتمادى في السخرية منهم. ما كنت أتمنى لهم هذه النهايات الدموية. تمنيت أن نجفف الدكتاتور بدلا من أن نقتله وننهيه بسهولة. نضعه في مسلة زجاجية جالسا مثلما كان يحكم وهو حي مسلة يقف تحتها طلاب المدارس ليعرفوا الدكتاتور وما فعل. التذكر والتذكير مهم، لأن الشعب الذي ينسى محكوم بالتكرار.
* الا يعني هذا المشهد (المَسَلي) ان الديكتاتور موجود بطريقة غير مباشرة اذا فعلنا ذلك؟
– صحيح. إنه فعلا موجود في غيابه، ويثأر ويؤثر على ضحاياه، ونحن امة قادرة على صنع تفريخ الدكتاتورين لأن الديكتاتور موجود في العائلة بصورة الأب القاسي والحنون، موجود في سلوك الرجل تجاه المرأة. أثبتت التجربة أننا لم نتخلص من الدكتاتور، إنما استبدلناه بآخرين…
* هل هذا بسبب بداوة، ام بسبب الدين؟
– هناك بداوة بالدرجة الاساس، الدولة النفطية تطعم الناس وترعاهم بدلا من أن تعيش من ضرائبهم. لذلك يعتبر المواطنون الحاكم متفضلا، فلا يثورون عليه. هذا النظام الريعي هو الفضاء النموذجي لولادة دكتاتور باستمرار..
* كما كتبت في كتاباك صناعة المستبد تماما ..
– المستبد ليس صفة للحاكم.. ففي تاريخنا والصورة السائدة هو مستبد بالضرورة، والسؤال: هل هو عادل أم لا؟ أنظري الى هذه الفوضى والقتل اليومي.. ألا تستدعي في عقل المواطن حنينا الى دكتاتور يضبط الفوضى ويلجم الحرب الأهلية. الحاكمون يعرفون ذلك، ولذلك استعاروا من الدكتاتور صوره وصفاته (الرجل القوي).
* طيب ما علاج الدكتاتورية؟
– الشعب يجب ان يكون قادرا على ان يحتج..
* لكن اذا كان الدكتاتور نفسه من نفس الشعب؟
– الطبقة الوسطى المتعلمة ودور وعيهم هام جدا، لكن ثورات العالم العربي اطاحت بدكتاتورية وولدت دكتاتورية…
* اين نحن من هذين الحَلّين: اقصد الحرب الاهلية والفوضى او الدكتاتورية؟
– نحن نعيش الاحساس بعدم الامان والعنف يطارد حتى من لا علاقة له بالسياسة.. الدكتاتورية لا تلمس الانسان المحايد.. في الفوضى الانسان المحايد يتضرر اكثر.
* هذا تصريح مؤلم…
– هذه حقيقة وواقع.
* مرة قلت لي: \”ليس من الضروري ان يقراني عدد كبير، يكفيني عشرة يفهمون ما كتبته، يكفيني تماما.\”؟ سؤالي هو: هل يكون الروائي الناجح لدينا مثلما في اميركا.. حين كنت هناك رتب لنا البرنامج الدولي للكتابة الابداعية في جامعة ايوا حضور حديث للروائي الفائز جونو دياز بجائزة بوليزار للرواية كانت المقاعد محجوزة سلفا وكان عليك دفع مبلغ من المال للاستماع للروائي على المسرح وليتحدث عن نفسه او ليجيب اسئلة الجمهور.. كان الجمهور الفائض جالسا على الارضية والممرات في مسرح كبير.. هل تعتقد سياتي يوم كهذا في العالم العربي؟
– لا استطيع القول بانني لا افرح حين يقرأني عدد كبير.. فهذا دليل صحة وجود قراء للكتب، هنا ليس بالضرورة لكتبي، لكن عموما انحسر الجمهور الواسع للشاعر والكاتب.. جمهور الجواهري وجمهور محمود درويش انحسر لصالح جمهور القرضاوي وجمهور برشلونة او ستار اكاديمي. الكتاب نفسه تراجع لصالح التلفزيون والموبايل والآي باد . اهتمام الجمهور يتجه نحو الثقافة المرئية التي تقدم الصورة جاهزة لمشاهد يراقب وهو يأكل الذرة أو البيتزا. قراءة الكتاب هي عملية مشاركة وتحالف بين قارئ وكاتب. القارئ يحول كلمات الكاتب الى صور وانفعالات. صار المواطن عندنا كسول ميال لتسلية جاهزة.
* لكن كي لا ننسى بان الموبايل وبرامج العروض والترفيه كلها تاتي من هناك ايضا؟
– جمهور الجامعات الغربية الذي تتحدثين عنه مختلف، لأن الجامعات عندنا غير معنية بمحاضرات الكتاب وتجاربهم، تفضل عليهم قراء المنبر والمواكب الحسينية.
* انت لا تتكلم عن المراة كثيرا في حواراتك او رواياتك؟
– المراة تشكل شيئا كبير في حياتي.. امي لها دور كبير في داخلي وكذلك المرأة التي أحبها، لاتنسي اني تزوجت وطلقت مرتين، وعادة يحدث الطلاق حين يخفت الحب وتسود العادة، لأني أريد أن أعيش حبا متجددا. أنا محاط بالنساء، لدي ست أخوات وأخ واحد.. لا انظر للمرأة كرمز للخصوبة أو الجمال، إنما ككائن حي ومتعارض، فيها الملاك والشيطان معا. ولا أنظر لها ككائن ضعيف. على العكس أحاول أن أتعلم منها قبل أن أتضامن معها. اتعلم واقعيتها، تضحيتها كأم، طريقتها السلمية في إدارة الصراع في عالم محجوز للرجال.
* كيف ترى المرأة المحجبة في عالم محجوز للرجال؟
– طبعا. الحجاب، حتى لو كان اختيارا، هو فرض اجتماعي، وهناك محجبات أذكى وأكثر فاعلية من السافرات. الحجاب في مجتمع محجب عقليا، هو نوع من المساومة الاجتماعية تقوم به المراة لتكون حرة اكثر..
* لا اجد اي حرية في الحجاب بصراحة..
– في رأيك أيهما أفضل للمرأة، أن تكون محجبة تعمل وتشارك في الحياة العامة، أم سافرة حبيسة بيتها.. هي مساومة اجتماعية للخروج من البيت الى المشاركة.
* في رواياتك كما أرى برود عاطفي تجاه المرأة. هل انت بارد عاطفيا.. يعني قرات رواياتك لكني لم ار فيها حرارة العاطفة؟ لا اتذكر شخصية عاشقة ملحة في ذاكرتي من رواياتك.
– صحيح، بمعنى أني لست كاتب روايات غرامية، ولا أتذكر حاليا لأنني عندما انهي رواية انفصل عنها.. انظري رواية حافة القيامة شخصية وليد اذا تتذكرين، كيف يتخيل حبيبته، يتخيل أدق دقائقها وهو ينتظرها.. كيف تمشي في الشارع وتتطلع لواجهات المحلات، وكيف تصعد السلم وتدير المفتاح في الباب وهو ينتظرها بلهفة عاشق مستثار.. واحترم المرأة يتجلى في إحساس وليد بضعف عاطفي تجاه شخصية الناقدة.. هنا حب وهناك احترام.. في روايتي المغارة والسهل وهي اول رواية لي، فيها المرأة حادة وقوية ومليئة بالحنان.. وفي مدن فاضلة كانت المرأة معشوقة الكل.
* انت خائف ام مخيف؟
– خائف.
* من ماذا؟
– \”من كل شيء\”.. من الكوارث غير المتوقعة، اتوقع الكوارث وكأنني المسها واعيشها بسبب الكثافة والحيوية في حضور. تفاصيل هذا التوقع وتجعلني اسهر.. اخاف الامراض…
* الموت ايضا؟
– الموت عشته من خلال وفاة ما لا يقل عن 300 صديق ورفيق حولي. تذكري أيضا أنني من مدينة وارداتها الجنائز ومحاطة بأكبر مقبرة في العالم. رغم أني محاط بالموت ومطوق بالمقبرة، كنت، و يا للعجب، أكثر خوفاً منه! لم أهضم أبداً أن ينقطع الإنسان بصدفة فجة عن هذه الدنيا وعن عاداته المحببة، عن مشاريعه التي لم تكتمل بعد، عن أحلامه البعيدة، عمن يحبوه ويحبهم، ويصبح جثة ً ممددة بين النائحات واللاطامات. كل ذلك يبدو مرعباً، أن يدفن الإنسان تحت التراب ويصير شيئاً. أخاف عبور الشارع والسيارات المسرعة والصادمة.. أخاف الألم اكثر من الموت..
* ماذا تريد ان تعمله وتخاف من انك سوف لن تنجزه؟ مثلا؟
– رواية عن النجف عن عائلتي..
* الان وبعد نشر قصتك الأولى قبل أكثر من أربعة عقود، هل تحس انك بحاجة للاحتفال بكتاب جديد؟
– لا.. بالمرة.. احتفلت وبالأحرى احتفل بي بعد نشر قصتي الأولى.
* كيف كان الاحتفال؟
– نشرت اول قصة في جريدة (المنار) بعد ثلاثة ايام من دفعها للصفحة الثقافية. وبعد النشر احتفى مسؤول الصفحة الصديق خالد الحلي بالقاص الجديد بأن أخذني، ومعي الشاعر عمران القيسي، في جولة في شارعي الرشيد وأبي نواس لنشرب كأسا في كل بار. في اليوم الثاني بعد النشر احتفى بي أستاذ الأدب في الجامعة بطريقة معاكسة.. صار يقرأ القصة نفسها على طلاب الصف بطريقة ساخرة ويسأل: هل فهمتم شيئاً؟
* ما الذي يخفف فرحة نشر كتاب ما؟
– احس انجاز الكتاب اهم من نشره او طبعة.. أتذكر إني دخلت مرة الى مكتبة المتحف البريطاني ونظرت الى رفوف الكتب التي تصعد قريبا من السقوف وقلت لنفسي وانا أرى كل هه الكتب: معقول؟ كل هذه الجهود والبهذلة لكي تضيف كتابا واحدا لهذه الرفوف؟
وما يخفف من فرحة إنجاز كتاب هو أن نرى الأمور بقيت كما هي بعد كل هذه الكتابات. أحينا أشعر ببرود وأنا أبدأ في الكتابة بعد كوب قهوة وسماع انفجار بعيد أو قريب. أشعر بلا جدوى الكتابة وبان الأفكار باتت مستهلكة أو تأكل نفسها بعد انهيار مشاريع التنوير والثقافة وبعد تحول الربيع العربي الى خريف قاتم.
* ليس عندك خيبة امل..؟
– نعم ليس لدي، لكني أهرب من اليأس بالقفز الى الأمام بدلا من السقوط الى الخلف..
* تعني بمواصلة الكتابة؟
– الكتابة هي صراع مع الخيبة، فعالية مادية وتحدٍ مستمر. الكتابة تجعلك تكتشفين اشياء فيك هذه الاشياء ونحن نكتبها تعطي نوع من السيطرة على الاحداث وعلى الذات. هي فعل تحدي لليأس.
* هل الكتابة فعل مهم جدا؟
– هو ليس باهم فعل انساني، مثلا الفلاحة هي كتابة ايضا، كذلك الولادة فعل كبير،
الاهتمام بالكتابة مهنتي ومتعتها لها صلة بين ما نراه وعملية فعل الكتابة، بينما الاعمال الاخرى ليست كذلك، مثلا النجارة ليست لها علاقة بحياة النجار الشخصية، اعني الكتابة الادبية.. عملية بوح.. انا اهمس للقارئ بعلاقاتي.. بوح لشخص محدود الكتابة قبل الكتابة تمر وتنمحي في هاوية النسيان، الكتابة شكل من مقاومة الزمن، نفعّل الاحاسيس والانفعالات والعواطف ونثبت ديمومتها.
* لماذا لا نستطيع ذلك في الواقع اي لا نديم المشاعر والاحاسيس..؟
– هذه طبيعة الكاتب.. هذا نتاج واقعنا.
* هل نخدع القارئ في كتاباتنا..؟
-كتابتها تجعلها خالدة..
* ورقيا..!
– مثلا بعد سنوات كثيرة ياتي شخص يقرا ما كتبت ويعيشها.. كما عشتها..
* هل يشغلك الخلود؟
– لا ولا افكر به.
* اريد ان اسال عن ظاهرة مهمة جدا في الاعلام العراقي الان وهذا الموضوع يهمنا رايك كرائد في الصحافة انت الذي قضيت اجمل سنوات عمرك في سبيل اخلاقية الكلمة.. ان يتخصص احدهم في التركيز على شخص سياسي واحد او جهة سياسية معينة مع ترك اخطاء هائلة لجهات، اين تضع هكذا فعل من قبل الصحفي اليس ما يلبسه بدلة مهلهلة بينما هو ينظر في المرآة ويراها مناسبة؟
– هذا صحيح وهي ظاهرة ولها امتداد تاريخي تكمن في عدم ثقة الصحفي بكلمته وموقفه والتاريخ العراقي يرينا انه دائما الصحفي مهمش وثانوي بالنسبة للسياسي ورغم حاجة السياسي الى الصحفي لكن طوال حوالي خمس عقود من العهد الملكي ومن مجموع اكثر من مئات المناصب مرة واحدة صعد صحفي الى منصب وزاري ولمدة سنة واحدة فقط، وتكرر هذا في العقود اللاحقة. البرلمان الحالي ومن المجموع الكلي نسبة الصحفيين عددهم اقل من أصابع اليد الواحدة في مجلس النواب. السياسي ينظر للصحفي كملحق والصحفي ينظر لنفسه كملحق بالسياسي وتزداد هذه الظاهرة في فترة الاستقطابات الانتخابية لان للحملات الانتخابية جانبين ضاغطين على الصحفي. الاستقطاب الحاد الدي يحول السياسيين الى ملائكة وشياطين من جهة والضخ المالي: الصحفي الذي يحافظ على نفسه في مواجهة هذه الضغوط والحفاظ على استقلاليته يشبه القابض على جمرة \”ويوجد هشاشة في الموقف الصحفي بحيث الاستقطاب يشده هنا وهناك ويجعله ضعيفا تجاه السياسي ويجب الا ننسى من ان حزب الواحد وصحافة الصوت الواحد نمت أجيال من الصحفيين على ثقافة المديح والرضوخ لهيمنة السياسي. ثقافة الصحافة الحرة ما زالت وليدة. من الصعب على الصحافة ان تكون مستقلة اذا لم يكن لديه استقلال مادي وحتى الان لا سوق الإعلان مستقل ولا سوق التوزيع ثابت.
* الستينيات طردت بعض صناع البلد الى اوربا.. والسبعينيات مقصلة الشيوعية والاحزاب الكردية والشيعية، وما نتج منها من منفيين جدد وسنوات الحرب الثمانية مع ايران وما نتج عنها ايضا من رحلات مغادرة ومنافٍ ومن ثم الانفال وانتفاضة الجنوب وما نتج منها عمليات هجرات اخرى والحصار وما تلفظه من خيرة العقول العراقية نحو الخارج وحرب الكويت وما بعد 2003 والهجرات الداخلية والخارجية من تشنجات الطائفية.. وحتى الان.. الا مستقر.. وهل اصبح العراقي في هذا العصر كاليهودي التائه الذي كان يجوب العالم من اقصاه الى اقصاه؟
– نعم تماما.. المنفى ضم اجيالا عراقية متعاقبة بحيث تكون تاريخ كامل لثقافة عراقية منفية، بدءا بالجواهري مرورا بالرواد مثل محمود صبري وبلند الحيدري وفؤاد التكرلي ومحمد مكية وسعدي يوسف، بعدهم الستينيون، جيلا كاملا، وصولا الى مهاجري ما بعد 2003. هناك جانب إيجابي في المنفى يكمن في خروج الثقافة العراقية من محليتها وانفتاحها على ثقافات بلدان اللجوء. الجانب السلبي يكمن في انقطاع مكاني بين المثقف العراقي كاتبا او فنانا وبين بيئته. أغلب أبناء جيلي هاجروا قسرا بسبب الملاحقة السياسية. هاجروا بعد أن تجاوزوا الأربعين من العمر. في هذا العمر تضعف إمكانية التكيف مع المنفى، وفي نفس الوقت تضمحل الذاكرة حين ينقطع التواصل..هذا خلق ازمة داخلية داخل المنفى، فهو هنا وهناك في الوقت نفسه، وخلق قطيعة وفجوة بين مثقفي الداخل والخارج وانقطع تواصل الأجيال.