حوار مع الشاعرة العراقية داليا رياض

\”عشرة آلاف لمحة بصر\” تحفة شعرية عراقية نقلتُها معي في ترحالي الى اكثر من بلد، وهي المجموعة الشعرية الوحيدة للشاعرة العراقية داليا رياض، جمَعتْ فيها كل ما نشرتْها وما لم تنشرها في طبعة واحدة عن دار الساقي، وكان تأجيلها لطبع المجموعة طويلا محاوَلة جاهِدة وباحِثة عن ما يفسر لها خطوط يدها ودوائر رأسها الجميل الباحث عن الحرية وقلب ثقيل بتاريخ متخم بالاحداث ومطباته وطيرانه ووقوعه.

هكذا تأسرك داليا رياض، حين تقترب منها انسانيا، حيث الحديث معها متعة واكتشاف، وأما شعريا فان داليا ليست مجرد رقم، وليست اسما لامراة تكتب الشعر فقط، انها فوهة تلقيك في سجالات النفس وتناقضاتها وصراعاتها وتسير مع لغتها، وكأنك رفيق دربها تجعلك تتابط حروفها وكأنك طفل تائه ثم لتتحول هي في نصوص اخرى الى طفلة تائهة تناديك بحروفها، وقصائدها محاولات عقيمة تارة وهي تريد العالم حولها كما تشتهيها برقي الحرية، وأخرى هائلة لتمسك بنفسها الامارة بالصمت والاكتفاء والزهو ايضا، وتُمسكك من كلماتك قبل أن تنطقها لتنطقها هي عنك لتهتف لها: يا شيطانة الكلمات ويا ملائكية النوطات- رغم انها تقول في حواري الآتي معها: \”منطقياً لا بد وأن أكون قد سببت الأذى دون أن أعرف أني فعلت، يقال أن الطريق إلى الجحيم معبّدٌ بالنوايا الحسنة\”.

وتحمل داليا رياض في جيناتها الثقافة العربية والكردية، وهي من مواليد بغداد درست الادب  العربي ثم الادب الانكليزي في جامعاتها.. وتعيش الان في كاليفورنيا.

عرفتْ قصائدُها الطريق إلى النشر بدءاً من العام 1993 وأول ما نشر لها كان نص \”المقعد والمقصلة\” في مجلة تعنى بأدب المرأة تصدر في لندن اسمها (الكاتبة). وبعد ذلك بعامين حصلت على جائزة \”حسب الشيخ جعفر\” للشعراء الشباب. 

عاشت داليا رياض حياتها في العراق، و في دمشق عام 2004. ثم غادرت الى الولايات المتحدة، وإضافة إلى كتابة الشعر فإنها تترجم أحيانا. 

تقول عن بداياتها مع الشعر:

\”كنت أكره الشعر، مثلما يكره أحدهم شخصا ثم يكتشف أنه في الحقيقة مغرم به. لكن كانت هناك علامات تؤشر على أنني كائنة تتفاعل مع العالم من خلال اللغة. لم أسأل الله أن أكون شاعرة ولم أكتب لأنني قررت ذلك. حصل كل هذا بلا قرارات ولا خطط\”.

تحدثت داليا بدفء وصراحة تامة لقراء \”العالم الجديد\”:

• هل انت سعيدة؟هذا هو أول سؤال، لأنه مستمر في ترددات الحياة

– أشياء كثيرة تفرحني لأني أسمح لنفسي بالفرح، أفتح له كل الأبواب والنوافذ، وأبقي على شقوق جدراني كي يدخل منها إن لم يكن هناك من منفذ آخر، لكني أسمح لنفسي بالحزن أيضاً لكني لا أقدسه ولا أفتخر به. أشعر بأن هناك انكساراً يشوب نبرة صوتي في السنوات الأخيرة لكني أقاوم وأركض نحو الفرح لأنني مغرمة بالحياة وتفاصيلها اليومية الصغيرة. السعادة كلمة لا أدعي فهمها. الفرح كلمة أقرب لواقعي من السعادة.

• هل تغيرين حافلتك بسهولة في محطات الحياة؟ أم أن ذلك يستغرق معك وقتا ثمينا لا تستطيعين تعويضه لاحقا؟

– غيرت طرقي وأحلامي بادئة من الصفر مرات عديدة في حياتي. بعض أحلامي بقيت أطاردها حتى حصلت عليها مثل السفر والحب العظيم المميز، لكنها استغرقت وقتاً طويلاً. وصلت لها متعبة ونادمة لأني لم أكن أكثر شجاعة في وقت أبكر لألاحق طموحي وأحلامي. انتظرت طويلاً وصدّقت محيطي وأحبتي طويلاً. أنا عراقية لهذا أنا مصابة بداء الانتظار. 

أفكر مراراً بقصيدة للانكستون هيوز اسمها أحلام مؤجلة: 

ماذا يحدث للأحلام المؤجلة؟

هل تجف في الشمس مثل الزبيب

أم تتقيح  كقرحة ثم تنز صديداً؟

هل تنتن كلحم فاسد 

أم تتقرمش كقشرة سكّرية فوق شراب حلو؟

أو ربما تترهل مع الوقت

كحمل ثقيل

أم أنها تنفجر؟

• متى يرعبك الصوت؟

– أي صوت يشبه أصوات الانفجارات أو أي نوع من أنواع الأسلحة يرعبني. عشت لبضعة أشهر قريباً  مما يوصف بأنه أسعد مكان في العالم وهو عالم دزني لاند. كل ليلة في التاسعة تبدأ حفلة للألعاب النارية. كل ليلة أعيش تجربة القصف الثقيل لبغداد. أعرف أنها محض ألعاب نارية، لكني أرى مشاهد القصف وأتخيل الناس يموتون. كانت هذه جرعتي من الرعب كل ليلة، ثم أفكر بأن ما حصل في العراق بعد أن غادرت كان ولا زال أسوأ بكثير من مجرد قصف. 

الآن أخاف من كل شيء تقريباً. أظن أني ذكرت هذا في واحد من نصوصي. 

• هل تقسمين الصور في الذاكرة؟اذا كنت كذلك فهل تقسمين حسب الأمكنة أم الحوادث؟

– على الأغلب فإن الحوادث هي التي ترتب الصور في ذاكرتي. الأمكنة لم تأخذ موقعاً بارزاً. أعطني صحبة طيبة وضعيني في أبشع الأمكنة وسأكون سعيدة كقطة مدللة. مع قولي هذا أعترف بأني وقعت في حب بعض الأمكنة وافتتنت ببعضها. أحببت دمشق كما لم أحب مدينة أخرى. لست ممن يحنون للأمكنة، لكن حنيني للشام أبكاني مرات كثيرة بدموع حارة ومالحة. أحب جنوب كاليفورنيا كثيراً حيث أعيش الآن. حبي للشام يشبه حضنا دافئا حين عزت الأحضان. حبي لجنوب كاليفورنيا يشبه العيش داخل قبلة… بغداد لا أعرف كيف أحكي عنها. لم نكن على وفاق وتغيرت كلتانا كثيراً، لكنها تحشر نفسها في نصوصي من حيث لا أدري. 

• حدثيني عن ثورة الانترنيت او الالكترونيات في روح الشاعرة الرقيقة داليا؟

– هل يلزم هذا السؤال؟ أحب التكنولوجيا جداً، ولا أخاف منها، الإنترنت كرتي البلورية. أي سؤال يخطر في بالي أجد معلومات عنه رهن أصابعي. أستطيع أن أتحاور مع عباقرة مغمورين أو مشهورين. أسافر عبر الزمن، أتعلم، أغضب، أحزن، أتواصل مع أهلي وأصدقائي المنتشرين تحت سماوات مختلفة. ثورة المعلومات قلبت موازيني، غيرت موقع أحجار شخصيتي على رقعة الحياة، أضافت لي واختزلت و حذفت. كسرت قلبي، أعطتني أصدقاء عابرين ودائميين، أعطتني الحب، كذلك أضاعت من وقتي أكثر مما يعجبني أن أعترف به. 

أقرأ على كومبيوتري أو تلفوني، وهو يحل محل التلفزيون إذ لا أشاهد التلفزيون إلا نادراً، هو أيضاً وسيلتي لاستهلاك الموسيقى وللتسوق.. باختصار أنا إنسانة تنتمي لهذا العصر، لست ممن يأسون على جمال أيام زمان. 

حوار مع الشاعرة العراقية داليا رياض

• تقولين على لسان حصان في مقطع شعري لك: \”لكني لا اعرف الكتابة لهذا اركض\”.. لكنك تعرفين الكتابة.. أجدك تركضين أيضا؟

– أرجو ذلك.. أتعنين ما تقولين يا كولالة؟ هو يركض لأن كم الحرية في دمه البري يدفعه للركض. لا أحب الوشوم، لكن لو كنت ممن يحبون الوشوم لوشمت ظهري بكلمة \”الحرية\” بخط النسخ العربي. أبدو هادئة جداً وأنا كذلك لأني اشتغلت كثيراً لأمتلك كمية من الصبر لا يمكن امتلاكها دون جهاد واشتغال على التهذيب الذاتي، لكني لا أصبر على من يريد سلبي حريتي أو إجباري على ما لا أريد، سواء أكان ذلك بإسلوب عنيف واضح أو بالحيلة أو العاطفة. لازلت كائنة برية الخصال سوى أني مولعة بالمدن أكثر من الطبيعة.

• هل أنت أليفة أم تأخذك الظنون تجاة الآخرين؟

– تعلمت أن أصدق الآخر وأطمئن له هنا في أميركا، تعلمت أن الآخر سينفذ واجبه كما يجب على أكمل وجه قدر استطاعته على الأقل في المراجعات الرسمية وفي أي إجراء حكومي أو مدني. المناخ الاجتماعي أيضاً مناسب للشعور بالثقة. خيباتي في هذا المجال موجودة لكنها لا تذكر.

حتى مبكراً في حياتي أعامل الجميع بثقة حتى لو كنت في غاية الحذر في داخلي. كذلك أؤمن بأن الثقة درجات وليست كل العلاقات الإنسانية تحتاج لنفس مستوى أو نوع الثقة. 

أقر بأن الظنون أخذتني أحيانا كثيرة لأني قرأت موقفاً ما بجدية أكثر مما يستحق.

• حدثيني متى يأسف القلب؟

– عندما يسبب الأذى لكائن آخر، ليس صحيحاً أني لم أؤذ أي كائن. منطقياً لابد وأن أكون قد سببت الأذى دون أن أعرف أني فعلت. يقال أن الطريق إلى الجحيم معبّدٌ بالنوايا الحسنة.

• ما سعة قلبك داليا؟

– هو يتمدد و يتقلص ربما لأن هذا هو دوره كي أحيا على هذا الكوكب. عندما يثبت حجمه سأكون قد تحولت إلى نوع أو أنواع أُخَر من أنواع الطاقة.

• داليا اين يمكن ان نجد البنائين (طبعا اقصد البنائين المهمومين ببناء دولة اسمها عراق)؟

– ليس عندي جواب أثيري لهذا السؤال الواقعي. يجب على العراقيين التوقف عن انتظار الحكومة. عليهم بالعمل الفردي والجماعي المحلي، لكن كيف يتم هذا إذا كانت روح المبادرة شبه معدومة لدى الفرد؟ العراقي لم تدفعه الأهوال التي عاشها في الحقبة الأخيرة للثورة، ثار تقليداً للآخر! هذا محزن جداً. الفكر الأصيل يُستهزأ به ويحارب ويشكك به من دون أي محاولة لتقييمه فعلاً. 

الفرد العراقي يظلم مواطنه كلٌ من موقعه، فعل هذا في الماضي ولا زال يمارس نفس الخطأ. الطبيب يصيح بوجه المريض البسيط في المستشفى العام، الموظف لا يعباً بالحفاظ على راحتك وكرامتك، المدرس يهينك وينتقم من شبابك وخياراتك، لأنك لست إنساناً بالغاً في رأيه، عندنا وباء الطبقية ووباء الطائفية، لا نرى أبعد من حدودنا ولا ننفتح على الآخر مرددين عبارات مستهلكة مثل (ظاهرة دخيلة على ثقافتنا)، لدينا كليشات جاهزة لكل موقف صيغت منذ قرون نستخدمها بدل التفكير باجابات حقيقية. فالبنت ترفض تحرش الفتى مستخدمة نفس الكلمات ونفس نبرة الصوت والولد لن يفهم الـ\”لا\” إن هي عبرت عن رفضها خارج هذا السياق. نقول نفس كلمات المجاملة للضيوف عندما يأتون وعندما يغادرون، نحزن على من نفقدهم بنفس الطريقة ونتعجب من حزن صامت أو من صبر يحمل حبا كبيرا يعبر صاحبه عن وداعه لمن يحب بابتسامة مكسورة هادئة، وهكذا مجموعة من الكليشات التي تمحو أي فرادة وتروج لظاهرة المجموعة المتشابهة في كل شيء. هذه الأعراض ليست كلها بسبب حكومة فاسدة. 

العراق لا يخلو من طاقات وعقول جبارة، ليس بينهم مع الأسف من يرغب بأي موقع قيادي، خوفاً على حياتهم وحيوات عوائلهم، كذلك لأنهم يخشون تلويث أياديهم بقذارة العمل السياسي.

• حدثيني عن علاقتك بالشعر..سؤال تقليدي لكني أعرف أن لك جوابا لا يخص سوى داليا؟

– أجده ينتظرني في قاع الجب، حيث أهبط أحياناً ويكون يومي مظلماً. الشعر والموسيقى أنقذاني كثيراً. تلفني الموسيقى بذكائها المضيء إذ تعرف كيف تلمسني في كل مرة. الشعر هو نظيري اللغوي في هذا الوجود. مع الأسف هو لا يزورني بالكم الذي أتمناه، لكنني لا أقسره على المجيء. 

الغريب أنني أتذكر دفتراً من مرحلة المدرسة المتوسطة كتبت فيه \”أكره الشعر\”! ربما لهذا لا يزورني أكثر من أربع أو خمس مرات في السنة انتقاماً مما كتبت وأنا صغيرة. و كيف لي أن أعرف حينها أنني كنت أحمل ملامحه؟ كنت أظنني من عائلة الحكائيين لا الشعراء.

• هل انت منهكة؟

– نعم. لكن عندي خصلة عنقائية تصارع ببسالة خصلة القنوط. هي حرب صغيرة في كياني و موقفي حيادي من كلتيهما.

• اذا كان لديك غيتار سحري اي لحن ستعزفين؟

– ذكرتِني بتقرير علمي عن التحكم بقوة إيعازات الدماغ (مثل تضبيط ذبذبات الراديو لتوضيح صوت البث)، حيث استطاع أطباء التحكم بمركز معين في دماغ شخص مصاب بمرض باركنسن (Parkinson\’s Diseaseويُصنّف كخلل ضمن مجموعة اضطرابات النظام الحركي، التي تنتج بسسب خسارة خلايا الدماغ المنتجة للدوبامين)، ثم قاموا بالتحكم بهذه الإيعازات فتوقف المريض عن الارتعاش، كذلك ذكر التقرير أن هذا يمكنك مستقبلاً من أن تصبح عبقرياَ في الموسيقى أوالفنون التشكيل أو الرياضة فجأة بتحفيز مراكز معينة في الدماغ. العلم هو السحر. 

• هل اصبت أهدافك الآن أم ما زلت؟.. أنت التي تقولين \”لم أتعلم من قبل كيف اصيب الهدف ليس حتى بعد كل هذه الحروب\”؟

– لم أصب أهدافاً، هذه الجملة مازالت صحيحة، أضيفي إلى هذا الإقرار إقراراً آخر هو أنني ما أفتأ أكتشف كم كنت مخطئة في أمور مهمة في الحياة. عبرت عن اكتشافي المرعب هذا في قصيدة ملحمة الأخطاء.

• اذا كان لديك مقص سحري (لا أدري لم أتحدث عن السحر كثيرا معك؟ربما لأنني أعرف خصوصية خيالك وغرابته احيانا) أين تقصين من حياتك؟ 

– أتشيرين إلى المقص الذي قص علينا أحداث التاريخ، فاستغرق وقص كل تفاصيل حياتنا؟ 

ماذا أقص؟ سأقص من حياتي الكثير لتصبح مكثفة ورائعة مثل قصيدة نثر مذهلة تقرأها بدقائق لتحبها طويلاً. هناك الكثير من الدراما الرخيصة التي لم أكن لأبقيها في قصيدة الحياة، لأنها مسفوحة مترهلة كثيراً ما تتشتت وتستطرد وتعطيني دروساً لم تنقذني يوماً، أو هكذا أظن مخطئة.

إقرأ أيضا