حواسم

حوسم يحوسم حوسمة فهو من الحواسم.

 تلك اشتقاقات لن تعثر عليها في معاجم اللغة، انما ابتدعها العراقيون تنفيسا عن مواجع التصقت بحياتهم منذ عقود، وما كان امامهم غير السخرية منها.

ظهر المصطلح يوم اعلن الدكتاتور السابق ان هذا هو عام الحسم. واكتشف العراقيون فيما بعد انه كان يريد حوسمة الكويت وثرواتها لينتقل منها فيما بعد الى بقية دول الخليج. وذهبت مثلا، فأخذ العراقيون يصمون كل لصوص المال العام والخاص بأنهم حواسم، خاصة بعد تلاحق موجات الحوسمة في حياتهم.

كان النظام السابق قد حوسم اجزاء كبيرة من منطقة كرادة مريم السكنية بحجة وجود القصر الجمهوري فيها. وهكذا تم الاستيلاء على العشرات من الدور السكنية وقطع الاراضي احيطت كلها بسياج صارم من الحراسة الامنية. ثم جاء الاميركيون ليضيفوا الى المنطقة عقارات اخرى حتى غدت مدينة متكاملة فيها القصور والشقق السكنية والفنادق والمطاعم وحمامات السباحة. واطلقوا على هذه المدينة تسمية المنطقة الخضراء تمييزا لها عن مناطق بغداد الاخرى الغارقة في بؤس الفقر وغياب الامن وانعدام الخدمات وتوقف العمران وتداعي شبكات المياه والصرف الصحي.

ومع الاحتلال الاميركي، بدأت عملية حوسمة كبرى لم يعرفها العراق من قبل. كان ابطال هذه العملية رجال الحكم الجدد الذين توزعوا فورا على مناطق بغداد، فيما كانت تحترق وكنوز متحفها تنهب، يتسابقون للاستيلاء على قصور صدام ورجال النظام السابق واملاكهم. ولطالما نشبت بينهم معارك لم تخل من عنف من اجل الاستيلاء على هذا القصر او ذاك. وامتلأت القصور برجال الحماية المدججين بالسلاح، وارتفعت الاسوار عالية من حولها بعد ان ضم اليها العديد من العقارات المجاورة، واغلقت الشوارع الفرعية لينعم صاحب القصر بالدعة والامان. واوجد غطاء قانوني فيما بعد لعملية الحوسمة هذه يتمثل في عقود ايجار بين الدولة وساكن القصر. ثم اتسعت عملية الحوسمة بالاستيلاء على افضل قطع الاراضي في بغداد ومراكز المحافظات الاخرى، اما باستصدار قرارات وزارية بتمليكها، او بوضع اليد عليها في غياب مالكيها، او عن طريق شرائها بأثمان بخسة من اصحابها العاجزين عن مواجهة القوة باللجوء الى القانون لاستعادة حقوقهم.

وتفجرت مؤخرا عملية حوسمة كبرى تمثلت بالاستيلاء على سبعة آلاف عقار في محافظة النجف قدرت اثمانها، وفقا للتصريحات الرسمية، بعشرين تريليون دينار. اثيرت هذه القضية في محاكم النجف منذ العام 2004 ثم اختفت عشر سنوات لتعاود الظهور اليوم، ربما اقتداء بالمبدأ الذي ابتدعه رئيس الوزراء بالاحتفاظ بملفات الفساد في ادراج مكتبه واستخراجها عند الحاجة. وما يعنينا في كل هذا هو السؤال التالي: اذا كان هذا هو حجم الحوسمة في محافظة صغيرة مثل النجف، كم يبلغ حجمها في بغداد والبصرة والموصل وبقية محافظات العراق؟

سأحاول هنا ان اقترب من تركيبة هؤلاء الحواسم وما الذي اوصلهم الى هذا الدرك. يقول لك البعض ان الحرمان الموغل في القدم الذي اعقبه تدفق ثروة مفاجىء كانت اكبر بكثير من حجوم اصحابها. لعل في هذا جانبا من الحقيقة لكنه لا يصلح وحده تفسيرا، والا لاتهمنا كل فقراء العراق، وهم بالملايين، بأنهم مشاريع فساد مؤجلة تنتظر لحظة الانطلاق. ان هذه الشراهة في تكديس المال بصرف النظر عن مصدره لا تنم الا عن ضعة في النفس وانقطاع الصلة بالمواطنة.

هذا بلد شرع فيه الاحتلال ابوابه للصوص والمغامرين والباحثين عن ثراء سريع في ظل انهيار كامل لبنية الدولة. لا عليكم انهم يحملون الجنسية العراقية فهذه ورقة رسمية تثبت ان حاملها عراقي بالولادة، لكنها لا تقوى على ان تمنح حاملها حسا بالمواطنة والانتماء.

هؤلاء الحواسم، مثل الارهاب، لا جنسية لهم ولا دين.

إقرأ أيضا