لم يعتد الكتاب والمثقفون العراقيون مواجهة الجمهور مباشرةً، ومن غير ترميز وتلغيز وتورية وتفخيم وانتقاءٍ للمصطلحات الغريبة والفضفاضة ورجمٍ بها لمن يقرأ كتاباتهم، فهم أقرب إلى العرافين والكهنة والسُجّاع الذين تنقل ثقافتنا عنهم انهم كانوا يميلون إلى اللغة التي تحمل أكثر من وجه ومعنى.
ولذا كان الكاهن أو الكاهنة نصف إنسان كشِق، أو كتلة هلامية من غير عظام كسطيح. فهو أقرب إلى الوهم والخيال منه إلى الحقيقة. ولما انتقلنا إلى مرحلة الكتابة والكتاب لم يفارق الكاتب وهم اللغة ووهم انه يحتاج في الكتابة إلى طبقتين؛ الأولى كالدثار يتغطى بها فيحمي نفسه من الإيذاء الجسدي على يد السلطة ويحمي نفسه من تناول العامة وهجومهم إذا ما واجهم الكاتب صراحة بأفكاره ومواقفه من معتقداتهم وسلوكياتهم وأفكارهم. والطبقة الثانية هي مواقفه من مجتمعه ومن العالم.
اما التصريح والمباشرة فهي سمة السادة والزعماء والسياسيين الذين يمتازون بالجرأة والوضوح في تعبيرهم عن مواقفهم من الجمهورومن أعدائهم وخصومهم، ومن أنصارهم على السواء. ولذا ركب هؤلاء الخطابة وكانوا مباشرينفي التعبير فيها عما يشعرون به وعما يرون.
وقلّ أن يحصل تداخل بين الفريقين فريق المتخيلين (شعراء وكتّاب وقبلهم الكهنة والمتنبئين) وفريق الواقعيين (السادة والزعماء والخلفاء والقادة) وإن كان الطرفان يستفيد أحدهما من خدمات الآخر. فبقسوة الساسة يُبرر الكتّاب أدبيتهم (توعرهم) وبرؤى الأدباء (ومثاليتهم) يُبرر الساسة حروبهم ضد من يعدونهم أعداء الحياة والقيم الجماعية. ولولا الساسة لما احتجنا فسحة الخيال التي يوفرها الأدب أي لانتفت وظيفة الأدب ودور الأديب. ولولا الأدباء لما آمنّا بالحاجة المؤبدة إلى الحاكمين على سوءاتهم.
وفي العراق اليوم لا نكاد نجد أديباً أو مثقفاً اختار التصريح في شؤون السياسة أو المجتمع خاصة معتقدات الجماعة بلغة مباشرة خالية من الإلتواء والترميز غير كاظم الحجاج مؤخراً.
فما أراد أن يقول كاظم الحجاج؟ إنه يقول للساسة:أنتم تقامرون بما لاتملكون من دماء أبنائنا وحياتهم. ومن أجل ماذا؟ من أجل فكرة لا تستطيعون فرضها بوسائل الدولة الدكتاتورية كما كان يفعل الذين من قبلكم، ولا تستطيعون بسطها بوسائل الدول الحديثة الديمقراطية. ولا تستطيعون أن تطوعوها لتصبح قادرة على التعايش مع افكار متعددة تستوطن هذا البلد من قرون وقرون. وإذ ثبت فشلكم فمن الخير أن تعودوا إلى وضعكم محكومين وتسلموا الأمر لحاكمين اكفأ منكم، وهم على ما قد يجرونه من خسائر لنا فلن تكون بحجم الويلات التي لا زلتم تجلبونها لنا منذ عقد من الزمن.
الحجاج يختار، في نظر أكثر من قرأ المقال وحتى من النخبة، خندق سميه الحجاج قائد عبد الملك بن مروان الذي نكل بخصوم الأمويين وبالعراقيين أشد التنكيل. وللحظة، لا أدري كيف اختار كاظم الحجاج!، قفز الرجل من حقله أديباً(وكاهناً) كان سيقول ما قاله وأكثر بطريقة سجاح وشِق دون أيّ غضب جماهيريّ ونخبويّ، إلى حقل السياسيّ، وخانة الحجاج نفسه. وأيّ مطمع في الأخير لعراقيّ يعيش في البصرة!
ماذا جنى كاظم الحجاج من هذه القفزة على الهوة الواسعة غير القابلة للجسر عبر التاريخ بين الأديب والسياسيّ؟ لا شيء..فقد تعرض لسوء قراءة.وبالمعنيين: الحرفي، فقد صُور وكأنّه يُهاجم طائفته ويتبرأ منها، مع انه لم يكن كذلك. وبالمعنى الرمزي، فقد حُجب الحجاج المثقف المعاصر الذي أراد أن يكون له رأي في مأساة تدور حوله ومن واجبه الأخلاقيّ أن يُنبه عليها ويدينها، وعُومل معاملة أسلافه الكهنة فهو عجوز، أي ناقص البنية الجسدية، ومُخرِف، أي فاقد القدرة على الكلام المتماسك والمقبول والمنطقيّ، ومجنون أي فاقد البصيرة والقدرة على الحكم.
وما ذلك إلا لأنّه قادم من حقل الكاتب والكاهن والعرّاف.
وماذا جنينا نحن؟ اعتقد إننا كجمهور وكقراء قد استفدنا كثيراً، فعلى المستوى المباشر كان لكلام الكاتب الكبير صداه فأثار ما أثار من مواقف. ولا بد أنه جرّ إلى التفكير في محظور من المحظورات. وعلى المستوى الثقافيّ فقد كانت محاولة للطيران وإنْبأجنحة من شمع لاختصار المسافة بين الكاتب الغامض والمثقف الحيّ والمسؤول أخلاقياً عن إبداء الرأي والموقف في مشكلات عصره. فلم يكن أحد يدري أنّ محاولة عباس بن فرناس ستجعل الإنسان يفكر في الطيران ويحلّق مختصراً المكان والزمان.