صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حين تكون عراقيتك أكبر آثامك.. (إنعام كچه چي إنموذجاً)

بعد دراستي في معهد الفنون الجميلة، قسم الفنون المسرحية، تفتقت لديّ مكنونات الرؤية الأكاديمية للاداء التمثيلي والإخراج، سواءً على المستوى المسرحي أو التلفزيوني أو السينمائي، وكنت أتناقش حينها مع أساتذتي حول طبيعة الأداء للممثل وما الفرق بين الصنوف التي ذكرتها، فرجعت أتابع مرة أخرى، وأحببت شخصيات كنت أكرهها لأنها مثلت دور الشر، وذلك لادائهم المميز، وتحفظت على غيرها رغم محبتي السالفة لهم، كون الأداء لم يكن بالمستوى المطلوب.

ومن خلال هذه المتابعة، وجدت أن أكثر ما يلفت نظر النقّاد في السينما بالتحديد، هي الأفلام الاجتماعية التي تجسّد حياة الناس بكل إرهاصاتها وتحولاتها، بعيداً عن أفلام الحركة التي تغوي من يشاهدها، وبالفعل تحصد هذه النوعية من الأفلام أغلب الجوائز في المهرجانات العالمية، لماذا ياترى؟

وللإجابة، وجدت أن الأفلام التي تناقش واقع الحياة الاجتماعية للفرد أو الأسرة أو المجتمع الخاص أو العام، تكون مصحوبة بالحقيقة التي يمر بها المجتمع البشري، رغم أن كثيرا من القصص هي من وحي خيال كاتبها، إلا أنها تلامس موقفاً أو حدثاً حصل في صقع من أصقاع المعمورة، الأمر الآخر أن هكذا نوعا من الأفلام تحتوي على كم هائل من المشاعر الإنسانية، فتتجسد في أداء الممثل عبر الشاشة الكبيرة، مخلفةً وراءها أحاسيس تنتاب المشاهد فتوقظ لديه ما كبتته الايام من قصصٍ وحوادثٍ غيرت مجرى حياته.

Image

لذلك نجد في الأفلام الاجتماعية دالتنا التي نبحث عنها أحياناً، في مشهد فراق حبيبة، أو وفاة ابنة، أو غفران لأب نسي مسؤوليته تجاه أبنائه.. وغيرها.

مقدمتنا التي لم يتعرف عليها العنوان بعد، جاءت لتوضيح أن الكثير من القصص في واقعنا العراقي، تستحق تسليط الضوء عليها وتجسيدها بالشكل الامثل عبر أعمال سينمائية قد تصل لمرحلة العالمية لو توفرت العناصر المساعدة لذلك، ومن ضمن هذه العناصر هي سرد القصة، أي الرواية، وقد حاول الكثير من الروائيين العراقيين من خلال نتاجاتهم طرح تجاربهم الحياتية، وماسمعوه من الاخرين، معززين ذلك بخصوبة الخيال الأدبي الذي يمتلكونه، ومن بينهم الروائية (أنعام كچه چي) عبر العديد من الأعمال التي تميزت بالحبكة والتصاعد الدرامي، واللغة المميزة، والتشويق في سرد الأحداث، فضلاً عن الترابط الزمكاني في قصتها، وهذا ما وجدته في روايتيها “طشاري” و”المجندة الأمريكية” لينتابني الفضول بعدها لقراءة روايتها “النبيذة” وهي آخر ما صدر لها، فوجدت في هذه الرواية تجسيداً لاحداثٍ تاريخية مرت على العراق، تسردها (عجوز/ فتاة) جايلت أغلب الحوادث المهمة في تاريخنا المعاصر، حيث تمردت على واقعها لتكون صحفية، وعاشقة، وعشيقة، وجاسوسة، وجليسة ملوك ورؤساء، وعاهرة، وزوجة، أي في لغتنا الدارجة (ماخلت شي بنفسها) تسرد حياتها المليئة بالملتبسات والتناقضات على “وديان” الفتاة الصماء، التي أستعانت بالسماعات كي تتواصل مع بني جنسها، وكلما خامر وديان الشك في قصص “مدام شامبيون” التي ترعرعت في أزقة الكاظمية، المقيمة في باريس، تفحمها بالأدلة المادية من صور ومراسلات وقصاصات تحتفظ بهن في “كراتين الاحذية”، فيبدو على وديان الحيرة فيما قامت به هذه العجوز في شبابها، وكيف أستطاعت أن تخلعَ وجهها لترتدي وجهٍ آخر مع كل إنسان تقابله.

Image

في مقالنا هذا، وددت الإشارة إلى أن هذه الرواية كسابقتيها اللتين قرأتهما لأنعام كچه چي، توضح أن أكبر آثام أنعام عراقيتها، فلو كانت لدينا صناعة سينمائية لوجدنا أعمالها تتصدر الأعمال السينمائية العالمية، ولو كان لدينا حس وطني ودعم حقيقي للمبدع العراقي، لوجدنا أنعام وغيرها من مبدعي العراق يتسيدون المشهدين الفني والادبي حول العالم، ففي رواية “النبيذة” تجد فيلماً سينمائياً عظيماً، يحتوي عناصر القصة والتمثيل والتشويق والمعرفة بتاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي عبر أكثر من نصف قرن، لكن للأسف ستبقى هذا العناصر الجمالية المتجسدة في (٣٢٥) صفحة حبيسة الغلافين اللذين يطوقان الكلمات المنسابة من قريحة فنية وأدبية فيها من الرقي والسمو والخيال الخصب ما يجعل كاتبتهنّ من أهم الروائيات العالميات في عصرنا الراهن.

إقرأ أيضا