باحدى يديه يمسك الشعر، وباليد الاخرى يمسك المنهج العلمي المتمرس في مجال علوم اديان الحضارات والاديان القديمة. انه الدكتور الشاعر خزعل الماجدي المولود في كركوك عام 1951، حاصل على الدكتوراه في التاريخ القديم 1996 من جامعة بغداد. وحاصل على شهادات اخرى من مؤسسات تعليمية خارج العراق.
عدا الاعمال الشعرية الغزيرة التي أنتجها فان للدكتور خزعل الماجدي سلسلة من المؤلفات حول الاديان والميثولوجيا الرافدينية القديمة: أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، إنجيل بابل، متون سومر الكتاب الأول، المعتقدات الأمورية، جذور الديانة المندائية وغيرها.
صدر له مؤخرا كتاب بجزئين تحت عنوان \”انكي\” الادب في وادي الرافدين.. وقعه في المغرب مؤخرا.
عن كتابه الجديد وعن تاريخ بلاد الرافدين حاورته \”العالم الجديد\”:
– كيف تسنى لك الامساك بالشعر والأثر كيف جمعت بين هذه الثنائية في وقت واحد؟
الشعر أثر روحي ذهب بي بعيدا، فوجدت نفسي مع أطلال الإنسان أتفحص ما تركه لنا، وحين اكتشفت الأثر تعدلت بوصلة الشعر مباشرة لتعتني بالحاضر أكثر، في حين أصبح بحثي عن الماضي من خلال الأثر فقط. إنهما، اليوم، يكملان بعضهما وما زال الأثر يمنحني شحنات روحية تنشط شعري. أعطتني اهتماماتي التاريخية عمقاُ مهماً لأني اطلعت على تاريخ الروح جنباُ إلى جنب مع التاريخ المادي والسياسي والاجتماعي لشعوب العالم، وهذا ما خصّب شعري وجعله ينتمي إلى جذور الإنسان العميقة.
– في مناسبات كثيرة تعلن انك تفضل كثيرا الأساطير الرافدينية على الأساطير في الحضارات الأخرى مثل الاغريقية، والفرعونية، والصينية، وغيرها، ما هي دوافع هذا التفضيل؟
هذا صحيح جداً، الأساطير الرافدينية فيها بكورية أبعد، أصالتها فريدة وهي بداية أساطير وروحانيات الإنسان، لم يكتبها شاعر أو أديب، بل هي نضح شعوب سومر وأكد وبابل وآشور وآرام… الخ، وهي الخزين الجمعي لشعوب حاول أن تتهجس فيها كل شيئ دينياً وروحياً وفلسفياً وعلمياً، أرادت أن تقول شيئاً عن الخليقة فتلعثمت واهتزت أوتار السطور فخرجت الأساطير مثل الطين الحري فطرية عفوية حارّة فيها نبض الروح. في حين أن الأساطير الإغريقية كتبها شعراء وأدباء ومسرحيون، مثل هوميروس وهسيود وأسخيلوس ويوربيدس وسفوكلس… الخ، فظهرت مصنوعة أدبية قليلة العفوية وتحمل طابع مؤلفيها. أما أساطير الشعوب الأخرى فتفتقر إلى النسق وتشوبها شطحات خرافية وتهويمات.
أساطير الرافدين مثل النبع الصافي ليس هناك ما يناظرها في العمق والجمال عند الشعوب الأخرى، خذ مثلا أسطورة الخليقة البابلية (إينوما إليش)، وأساطير إنانا ودموزي، وحتى ملحمة كلكامش، هذه نوادر تفتخر البشرية، كلها، بها وليس وادي الرافدين.. وستزداد أهميتها كلما تقدم الزمن .أنا شخصيا أعتبرها أعظم النصوص، وهي تلازمني دائماً وأعيد قراءتها مرارا وتكراراً، ودائماً أجد فيها أمراً جديداً.
– التكرار والتوظيف الملحوظ لـ\”الماء، القصب\” في الميثولوجيا السومرية هل هو إفراز طبيعي لبيئة المكان في الاسطورة أم أن هناك أبعادا خرى لهذين العنصرين في قناعات السومرييين؟
هذا مؤكد هي بيئتهم لدرجة أن سومر كان اسمها عند السومريين (كي اين جي أي أرض أحراش القصب) والقصب ينمو وسط مياه كثيرة .
– بناءً على الأساطير القديمة هل يمكن تشخيص عمر الأهوار على سبيل المثال؟
لا أعتقد، الأهوار قديمة في وادي الرافدين، وقد ظهرت قبل مجيئ السومريين بآلاف السنوات، وفي ظني أنها بقايا انحسار مياه الخليج العربي عن جنوب العراق، والذي حصل في وقت مبكر ربما في الألف الثامن قبل الميلاد أو أكثر بكثير. ما يحدد عمر الأهور هو البحوث الجيولوجية والبيئية.
– في كتاب \”متون سومر\” تحدثت عن براعة السومريين في استحداث أنظمة الري كيف تعامل السومريون مع مياه دجلة والفرات، وكيف استثمروا تلك الثروة المائية وطوروا أنظمة الري؟
أنظمة الري واحدة من أكثر مظاهر الحضارة السومرية وضوحاً، وهي تطويع لمياه الطبيعة في خدمة الإنسان بعد أن طوّع الإنسان الأرض للزراعة جاء دور تطويع المياه. وكان على السومريين مقاومة موسمية الأمطار فابتكروا الري تحت الخط المطري جنوب سامراء من حيث نزحوا وكونوا هندسة ريّ متطورة. لكن الذي لا نعرفه جيدا هو أن مشكلة الملوحة في أرض الرافدين ظهرت بقوة بعد ذلك وحاول السومريون معالجتها بتحويل مجريات الأنهار لكنهم لم يستطيعوا ابتكار حلٍّ كافٍ لها، وكانت هذه إحدى أسباب زوالهم، لأنهم كانوا شعباً مسالماً يعتمد على الزراعة والحرف، ولم يكونوا محاربين عتاة مثل الذين حولهم والذين نهبوا السلطة منهم.
– من أين جاءت الهجرات الأولى لجنوب العراق؟ وهل العراق هو الوطن الأم للساميين؟
الهجرات الأولى لجنوب العراق جاءت من نصفه الشمالي وكانت مبكرة في حدود الألف السادس قبل الميلاد بعد أن تكاثرت القرى الزراعية في حضارات النيوليث (الحجري الحديث) الشمالية، وهو ما جعلها تزدحم بالناس وتهاجر متتبعة مجرى النهرين بعد أن شحت مياه الأمطار شمالاً وتذبذب ظهورها.
العراق هو الوطن الأم للساميين، ومنه ظهرت هجراتهم إلى ما حوله وخصوصاً باتجاه بلاد الشام وشمال جزيرة العرب وسواحل الخليج، خصوصاً أن امتداد الحضارات الرافديني ثم الإمبراطوريات الرافديني شمل كل هذه المناطق، ومن الطبيعي أن يتنقل أهلها فيها .
وهناك العامل السياسي الذي سبب الهجرات وما زال حتى يومنا هذا، فالعراق بلد تزاحم حضاري واحتكاك دائم للعقائد والأفكار الدينية والسياسية، وهذا سبب مهم جدا لنزوح أهله باتجاهات مختلفة حوله هرباً من البطش والقمع، شهد عصرنا الحالي ما يشبه هذا، وهو نزوح بالملايين من البشر، ومن الممكن جداً أن يكون هذا قد تكرر لعشرات المرات في الماضي، وهو ما نطلق عليه بالهجرات التي كانت سامية وغير سامية.. والمهم أن سكانه هاجروا، ونقلوا ثقافاتهم الى ما حوله، وهذا واضح جداً عند فحصنا المقارن لهذه الثقافات التي ظهرت حوله متأثرة به، وقد عالجت في محاضرتي عن الإبيبوتاميا هذه الظاهرة، ووجدت أن هناك أكثر من 15 ثقافة محيطية لوادي الرافدين (في ذلك الوقت)، هي من مؤثرات هذه الهجرات.
لقد وقفت ومازلت أقف بالضد من نظرية نزوح الساميين لوادي الرافدين من جزيرة العرب أو الشام، وأرى بأن العكس قد حصل وسيثبت الزمن صحة توجهي هذا.
– الشعب الذي عاش حول الاهوار \”كي إين جي\” أحراش القصب السومريون من هم؟
هو الشعب السومري الذي كان يسمي نفسه شعب (ذوي الرؤوس السوداء)، وليس المقصود منها الشعر الأسود لأن كل أهل الرافدين لهم شعر أسود، ولكن المقصود منها هو الطرة السوداء من الشعر التي يحيطها شعر خفيف، وهو مانسميه شعبياً بـ(زيان الحواف) الذي يبرز الطرة السوداء العليا، وهذا ما كنا نشاهد، وحتى وقت قريب عند أطفال أهل الجنوب، وكان المقصود منه قديما هو نذر قص الشعر حزناً على ديموزي أو تموز الذي كان يموت في الخريف، ويعود للحياة في الربيع، ولكي أثبت لك هذا أكثر فإن وجود (الخضرمة) وهي خرزة خضراء تعلق في شعر الحواف على رأس الطفل، هذه الخضرمة هي رمز ديموزي إله الخضار والربيع، واللون الأخضر هو لونه .
الشعب السومري شعب عظيم تشرفت أرض الرافدين بعيشه عليها، فهو مبدع أول حضارة بشرية في التاريخ، كان الشعب السومرى، أكثر من غيره، اختلافا عن ما حوله من شعوب كانت، رغم دأبها تعيش منهج الاستهلاك والاسترخاء بعيون مغمضة أمام الكون.. ولذلك بعد أن فجرت الأيدي الأرض وبنت بهندسة خلاقة نظام الري، تفجر العقل وتوقد وتوتر الروح الإنسانى وأضاء ظلام الأرض وأحراشها.
كانت روح المغامرة التي سيطرت على هذا الشعب هائلة، فانكب السومريون على الأرض التى بين أيديهم وحولوها من أرض غفل إلى جنة عدن.. وبقيت هذه الجنة فى أذهان مدونى التوراة على أنها الجنة السماوية.
أول شرارات الخلق هي السيطرة على الماء واكتشاف الري، لم يكن هناك مطر فاخترعوا الري.. ولم يكن هناك خشب فاستعملوا البردي والقصب، ولم يكن هناك معادن فصنعوا من الطين المحروق القدور الأواني، والجرار، والطابوق، وألواح الكتابة، والعربات ذات العجلتين، والسفن الكبيرة، والمراكب، والمشاحيف، والقفف، والسفن الشراعية.
أما الري ونظام القنوات والحواجز والسدود والخزانات فلم يكن لها نظير، وكان هناك ما يرافقها من آلات التسوية وقضبان المقاييس والرسم وإعداد الخرائط. قالب الآجر، دولاب الفخار، عجلة العربة، المحراث، السفينة الشراعية، القوس، صب النحاس والبرونز، البرسمة والطلاء بالنحاس واللحام، ونحت الحجر والنقش بالحفر والترصيع والرسم وكتابة الشعر والغناء وترتيل الملاحم.. كل هذه كانت مشاغلهم اليومية.
لم يكن شعباّ خرافيا، ولم يخلط الواقع بالخوف لينتج الخرافة، كان واقعياّ متزن العقل وئيداّ بصيراّ ينطق بالحكمة البسيطة (المدينة التي لا يكون لها كلاب يحرسها الثعلب)، (ليس القلب هو الذى يقود الى العداوة، وإنما هو اللسان)، (تدخل الذبابة فى الفم المفتوح)، (إذا بنيت بيتاّ كزعيم تعيش كعبد، وإذا بنيت كعبد تعيش كزعيم)، (بيد مع يد يبنى البيت، بمعدة مع معدة، يأتي خرابه).
لم يوهم هذا الشعب نفسه أو أفراده بالخلود.. جسد الانسان غير خالد ولا خلود إلا بالعمل والذكر الطيب.. ليست الآلهة كائنات، بل قوى خلف ستار المرئي كما يقول كريمر.
شعب تقول كل ألواحه بالطموح والنجاح والشرف، كانت قيمه الاخلاقية مثل القوانين والأعراف، يلتزم بها الجميع بصمت وهدوء وكان اغلب كهنته وملوكه مثلاّ أعلى لهذه القيم.. إن من يقرأ سيرة الملك الامير (كوديا) حاكم لكش يذهل من تقواه وعدالته وحبة للبناء (كوديا معناها النبي أو الرسول)، فهل كان نبياّ بالفعل؟.
كان (كوديا) يحب الحمار لأنه يعمل وهو صامت دون كلل، وكان يتشبه به.. وكان أوركاجينا أول مصلح اجتماعي كبير فى هذه الأرض .
كانت الاخلاق جزءاً من العبادة أو فلنقل جزءاً من شروط وجود الانسان على الأرض حياّ ومتوازناّ. كانت أرضه أهوراّ موحشة تطفو عليها مستوطنات متفرقة ويائسة تمتلأ بالأحراش.. لكن عرق السومريين هو الذى ارتفع بها للنجوم.
بنى السومريون ما يقرب من 16 مدينة كبيرة فى السهل الرسوبي الجنوبى للعراق، سوروهما فيما بعد، وفى وسط كل مدينة بنوا معبداّ ذا مصطبة عالية.. تطورت إلى برج مدرج ضخم اسمه الزقورة .. وكان هذا أهم اسهام فى العمارة الدينية التى تلتها الاهرمات ثم الكنائس ثم المساجد ثم الملوية (زقورة المسلمين الفريدة).
– كتب الكثير عن المتون السومرية هل هناك متون وأساطير جديدة، ومعطيات أثرية سومرية جديدة كتلك التي ظهرت في القرن العشرين؟
النصوص السومرية لم يظهر منها إلاّ جزء بسيط جداً، هناك عشرات بل مئات الألوف من رقمها الطينية في متاحف العالم، وخزائنها لم تقرأ بعد لأنها تحتاج إلى جيوش من الباحثين المتخصصين، فضلاً عن أن أرض سومر ما زالت تحتوي عشرات الآلاف من الرقم الطينية والتي أتمنى أن لا تنبش الآن بصورة رسمية أو غير رسمية، لأننا غير مؤهلين لحفظها فمعاركنا لا تنتهي وطمعنا المادي لا ينتهي وسيقضي هذا حتى على ماضينا الجميل، أتمنى أن تترك في بطون الأرض، وحين نبلغ مستوى لائقاً من التحضر يمكن حينها أن نستخرجها ونقدمها للعالم أما الآن فلا.
– تحدثت في مناسبات عديدة عن الحضارة السوبرية.. ما هي ملامح هذه الحضارة وأين هي بالضبط؟
الحضارة السوبرية حضارة موازية للحضارة السومرية عاشت شمالها وبدأت مع أقوام السوبارتو الشمالية ثم استقرت في سار قبل الطوفان وكان تاريخها هذا يبدأمنذ (4000 – 2900) ق.م حيث عادت وهبطت الملكية في كيش وهي المرحلة الثانية (2900 – 2400) ق.م، لها حين حكم فيها أربع أسر كيشية أشهرها الأولى، وفيها ملوك مشهورون مثل إيتانا ومسيلم وأجا وغيرهم، وأخيراً جاءت المرحلة الثالثة (2334 – 2130) ق.م، في أكد حيث أنشأ سرجون الأكدي الإمبراطورية السوبرية الأكدية التي هي أول امبراطورية في التاريخ امتدت من الهند إلى كريت، ووصلت إلى مصر وكل الخليج العربي واستمرت لعدة قرون.
وميزة الحضارة السوبرية، أنها كانت تقدّس الشمس أولاً، وإلهها هو الإله شمش، في حين أن الحضارة السومرية كانت تقدس إنليل إله الهواء ثم إنكي إله الماء .هذا التنوع الفريد في الحضارات العراقية يكسبها سحراً لا نظير له بين حضارات العالم القديم، وقد أفنيت عمري في دراستها وتمحيصها وما زلت، ونتج عن ذلك كتب وبحوث كثيرة .
– \”إنكي\” كتابك الجديد.. هو ختام هذا الحوار ماذا أردت به؟
(كتاب إنكي) هو رصد معمق لتاريخ الأدب في وادي الرافدين عبر اثني عشر حضارة وثقافة رافدينية قديمة، فهناك إثنا عشر برجاً أدبياً جمعت في مباخرها رقماً طينية ومخطوطات عتيقة ودارت حول النهرين تعطرهما بنصوص (سومرية وأكدية وبابلية وآشورية وآرامية وسريانية ومندائية ومانوية وحرّانية وإيزيدية ونبطية وحيرية). مشهد أدبي باذخ، غير الذي اعتدناه، في النظر المبتسر والسريع للأدب في العراق القديم، وهو يجمع شظايا مشهد كان على وشك الاختزال ثم الاندثار، لكن يد (إنكي) الحانية التي استخدمتها في جمع وكتابة إرث إنكي (سيد الكتابة والإبداع في الآداب والفنون) مكّنت من عرض كل هذا الدفق الوافر. هذا الكتاب صدر بجزئين عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضا بـ\”668\” صفحة. وهناك كتب جديدة تخص الميثولوجيا السومرية، وحضارة بابل، وحضارة آشور والحضارة السوبرية.