يكشف التحقيق عن وجود تحيز لدى خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، أثر سلباً في الحملات الانتخابية لسياسيّات لبنانيّات، عبر التحيز الجندري، وتداول معلومات مضللة، إضافة إلى حملات تشويه السمعة، والتحرش عبر الإنترنت؛ ما قلّل حظوظهن في الوصول إلى الناخبين، وفي المنافسة السياسية العادلة.
“كانت تصلني تهديدات مباشرة من حسابات وهمية ما أجبرني على الابتعاد عن بلدتي لبعض الوقت، كي لا أتعرّض لأيّ أذى جسديّ محتمل”، هذا ما قالته ديمة أبو دية، المرشحة عن المقعد الشيعي على قائمة “زحلة السيادة”، المدعومة من حزب القوات اللبنانية، خلال الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان عام 2022؛ بعد أن خاضت فيها دية معركة انتخابية شرسة، حيث قررت مواجهة الأحزاب المهيمنة على منطقتها.
أكثر من ثلاث حالات لنساء لبنانيّات خضن تجربة المنافسة السياسية؛ تعرضن خلال حملاتهن الانتخابية لعنف إلكتروني واستهداف لحياتهن الخاصة، من خلال مجموعات إلكترونية مدعومة من مرشحين منافسين.
وثّقت معدة التحقيق، من خلال تتبع تلك الحالات للمرشحات اللبنانيّات، كيفية تأثير خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي سلباً في حملاتهن السياسية، عبر التحيّز الجندري، وتداول معلومات مضللة، إضافة إلى حملات تشويه السمعة، والتحرش عبر الإنترنت؛ ما قلّل حظوظهن في الوصول إلى الناخبين، وفي المنافسة السياسية العادلة.
فرغم مرور أكثر من نصف قرن على منح القانون اللبناني المرأة حق الاقتراع والترشّح عام 1952، وتوقيع اتفاقية “سيداو”، لا تزال فرص المرأة اللبنانية غير متكافئة مقارنة بالرجال. ثماني نساء فقط من أصل مئة و15 مرشحة فزن خلال الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2022، واقتصر تمثيل المرأة في مراكز القرار على ستة في المئة (ثمانية مقاعد من أصل مئة و28 مقعداً برلمانياً)، وخمسة في المئة في البلديات (663 مقعداً من أصل 12139 مقعداً بلدياً).
“الانقسام السياسي” في البلاد انعكس على التحالفات الانتخابية، فتوزعت اللّوائح في معظم الدوائر ما بين موالية للثنائي “حزب الله” و”حركة أمل”، إضافة إلى “التيار الوطني الحرّ”، مقابل لوائح مدعومة من المعارضة مثل “القوات اللبنانية” و”الكتائب اللبنانية”، إضافة إلى لوائح “التغيير” التي شكلت جبهة سياسية منفصلة عن الفريقين؛ ما رسم خارطة نيابية جديدة، لا غالب فيها ولا مغلوب.
تقول ديمة أبو دية إن المواقع الإلكترونية قادت حملة ممنهجة ضدها؛ ما دفع عائلتها لإصدار بيان تبرأت فيه من ترشحها في انتخابات 2022.
كل هذه المعطيات أثرت في دية وحملتها، لا سيّما وأن بيان عائلتها فتح المجال أمام الكثيرين لتهديدها مباشرة، إما عبر الرسائل الإلكترونية، أو التعليقات بعبارات مهينة بحقها كامرأة على مواقع التواصل الإجتماعي.
استعانت معدة التحقيق بتحليل بيانات 20 حساباً لمرشحين ومرشحات في الانتخابات النيابية اللبنانية 2022، على وسائل التواصل الاجتماعي، تمّ تجميعها بصورة عشوائية.
أظهر تحليل البيانات أن التعليقات المسيئة وحملات التشويه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تركزت على المرشحات، وتضمّنت التشكيك في أهلية وقدرة المرأة في أن تكون ناشطة سياسية، وتشويه سمعة المرشحات من خلال نشر صور أو تعليقات شخصية.
كما أوضح تحليل البيانات غياب أيّ تفاعل على حسابات المرشحات إلا بعد إعلانهن أو عزمهن الترشح.
استهداف المرأة إلكترونياً
عملية تتبع مسارات المرشحات في لبنان التي وثّقها التحقيق، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تتقاطع مع دراسة مشتركة أعدَّتها مؤسستا “مهارات” و”مدنيات” عام 2022، تحت عنوان “وسائل الإعلام ومراقبة النوع الاجتماعي في انتخابات 2022 – العنف ضد المرأة في السياسة”، بهدف التعرف على أنواع العنف ضد المرأة العاملة في الحقل السياسي عبر الإنترنت.
وقد أظهرت الدراسة، من خلال مواكبة حالات العنف الجندري المرصودة ضد المرشحات خلال فترة الانتخابات، تعرض المرشحات لكل أنواع العنف الإلكتروني: كتشويه السمعة، وخطاب الكراهية، والإيذاء النفسي والتهديد بالإيذاء الجسدي، والعنف الجنسي والتنمر وغيرها.
وتقف وراء هذه الحملة الممنهجة “جيوش إلكترونية” أو حسابات وهمية، تغذيها أطراف سياسية تهدف إلى إسكات المرشحات، ومنعهن من الإدلاء بآرائهن التي لا تصب في مصلحة هذه الأطراف.
وأوصت الدراسة بضرورة اعتماد نهج سياقي وثقافي، يضمن مراعاة النوع الاجتماعي في سياق تعديل المحتوى، وتوفير معلومات عن أداء الجيوش الإلكترونية والخوارزميات المتعلقة بالعنف الجندري ضد المرأة، وحثّت الدراسة أيضاً على زيادة المشاركة مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني؛ لتعزيز آليات الإبلاغ والتدابير اللازمة للحد من العنف على الإنترنت.
يقول الخبير في خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، جون كيفين، إن الخوارزميات هي سلسلة من التعليمات المُصمَّمة لحل مشكلات معينة أو أداء مهام أو اتخاذ قرارات أو تغذية تعليمات، وهو ما ينطبق على حالة السياسيّات في لبنان.
وأضاف كيفين: “تعمل هذه الخوارزميات على تغذية خطاب الكراهية ونشر المحتوى ضد المرأة، للوصول إلى انتشار أكبر من دون فلترة أو وضع محاذير على المحتوى”.
الخوارزميات وتضخيم خطاب التحرش والتنمر
فكيف تعمل خوارزميات مواقع التواصل الإجتماعي؟ وهل تدخل موضوعات مثل التحرش، والتنمر، واستهداف النساء وتشويه السمعة، وتضليل المعلومات، ضمن خوارزمياتها؟ وكيف تعمل الخوارزميات على تضخيم هذا النوع من الخطاب؟
هذه الأسئلة أجاب عنها المتخصص في الإعلام الرقمي والتواصل، بشير تغريني، الذي أكد أن لكل تطبيق من تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي خوارزمياته الخاصة المُوجّه، كما هو الحال مع “فيسبوك”، الذي قام بهذا الدور وفق ما شهدناه في الانتخابات الأميركية السابقة، وفي حرب غزة الأخيرة أيضاً.
ويضيف تغريني: “في لبنان تحديداً، هناك ما يعرف بالجيوش الإلكترونية تديرها الأحزاب السياسية، وحين يشنّ الجيش الإلكتروني هجوماً على نائب/ة معين/ة مثلاً، تحدّث بما يخالف رأي حزب معين، يتصدّر الهاشتاغ هذه الصفحة، ويبدأ التفاعل معه كونه إيجابياً، لكن الحقيقة أن مجموعة موجّهه كتبت في هذا الاتجاه، وهنا تبدأ الخوارزميات بإظهار هذا المحتوى من دون تحليله، لتداوله بكثرة”.
يعلق فريق ميتا على ذلك بالقول: “ندرك أنه على الرغم من أن بعض التعليقات قد تكون مسيئة، فإنها قد لا تنتهك سياساتنا، وهذا هو السبب في أننا نستخدم التكنولوجيا لتحديد أولويات المحتوى الأكثر أهمية، الذي يجب مراجعته؛ سواء تمّ الإبلاغ عنه أو اكتشافه بواسطة أنظمتنا الاستباقية”.
وأضاف فريق ميتا أن ذلك يساعدهم على اكتشاف المحتوى الضار وحجبه عن مئات أو آلاف المستخدمين: “لقد استثمرت ميتا في التكنولوجيا التي يمكنها العثور على المحتوى المخالف بشكل استباقي؛ لذا فإن 98 في المئة من خطاب الكراهية على إنستغرام، خلال الربع الأخير من عام 2023، قد اتخذنا إجراءات استباقية بشأنه قبل الإبلاغ عنه”.
وفي محاولة لسد هذه الثغرة، طوَّرت الشركات الخوارزميات من خلال الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، كما يقول مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس” للحقوق الرقمية عبد قطايا، الذي أضاف أن سياسات الخصوصية والاستخدام التي يطلقون عليها اسم “إرشادات المجتمع” باتت تلحظ موضوعات كالتحرش، والتنمر، وتشويه السمعة، عن طريق الكلمات المفتاحية؛ فتمنع الخوارزميات نشرها.
أمّا بالنسبة للأخبار الخاطئة والمضلّلة، فيرى قطايا أنّ الأمر يكون أصعب حيالها، رغم المحاولات الدائمة في هذا الإطار.
وعن تضخيم التحرّش وخطاب الكراهية عبر الانترنت ضد السياسيّات، فيؤكد قطايا أن الخوارزميات تعمل على تضخيم محتويات كهذه، وقد أثبتت تسريبات من ميتا أن المحتوى السلبي عبر “فيسبوك” لا تتمّ إزالته إذا لقي تفاعلاً كبيراً.
واستشهد مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس” للحقوق الرقمية عبد قطايا، بأن هناك عدة إعلانات على “ميتا” تحمل خطاب كراهية وتشويه السمعة وأخباراً خاطئة، من دون حذف؛ وهو ما تبرره ميتا دوماً بوجود الأخطاء التقنية.
يتفق خبير التشريعات والسياسات الإعلامية، المحامي طوني مخايل، مع مخرجات الدراسة المشتركة لمؤسستي مهارات ومدنيات بالقول: “خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تُفضل المحتوى على أساس نسبة التفاعل والمشاركة، وترتكز الحملات الانتخابية للأحزاب على الدعاية والترويج السياسي، وتمنح الجيوش الإلكترونية للأحزاب انتشاراً أوسع للمحتوى الخاص بها، أما محتوى النساء المستقلات في السياسة لا يُعامل بصورة تفضيلية من منصات وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهذا ما يدفعهن إلى التسويق المدفوع لإيصال أصواتهن وبرامجهن وأفكارهن المتعلقة بالشأن العام، ما يؤدي فعلياً إلى تهميشهن”.
حملات العنف تحدّ من مشاركة النساء في العمل السياسي
مرشحات كثر انسحبن من المنافسة السياسية في لبنان بسبب العنف الإلكتروني وحجم الضغط عليهن. وبحسب مخايل، فإن العنف ضد المرأة في المجال السياسي يعدّ أحد العوائق الرئيسية التي تحول دون انخراط المرأة في السياسة، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات النيابية لعام 2022؛ التي شهدت حملات عنف ممنهجة ضد المرشحات والصحفيات على وسائل التواصل الاجتماعي، بل طالت أيضاً المدافعين عنهن.
وتبين أن نسبة سبعة في المئة من جميع التعليقات على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، الخاصة بـ 18 مرشحة في الانتخابات النيابية لعام 2022، قد اتسمت بالعنف ضد المرأة. وأبرزت تقارير رصد ومتابعة الخطاب العام، خلال الانتخابات النيابية والبلدية، وجود مؤشرات مقلقة ضد المرشحات؛ لاسيّما المستقلات وحتى الحزبيات.
وتشير الخبيرة في الذكاء الاصطناعي، ساره عبدالله، إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنها فتحت الفضاء الإلكتروني أمام النساء في السياسة، كسبيل جديد للتعبير عن أنفسهن، فقد أتاحت في المقابل “للخصم” استخدام موضوعات جديدة لمهاجمة النساء؛ كالتحرّش والتنمر وتشويه السمعة إلكترونياً. وتساءلت سارة إذا ما كانت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ستُضمّن هذه الموضوعات ضمن سياساتها، نظراً لأهميتها.
ويؤكد الخبير في خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، جون كيفين، أن حالات التنمر وتشويه السمعة ضد النساء على وسائل التواصل الاجتماعي، لا تحدث في لبنان والعالم العربي فقط، وإنما يشيع حدوثها في معظم دول العالم، خاصة خلال الانتخابات.
وأضاف كيفين أن القائمين على وسائل التواصل الاجتماعي لم يحاولوا منع أو تقليل ذلك، مع سهولة العمل على تحييد تلك الحملات ضد النساء، بتغيير بعض الخوارزميات أو إضافة آلية سهلة للإبلاغ عن هذا النوع من المحتوى.
ويشير خبير التشريعات والسياسات الإعلامية، المحامي طوني مخايل، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أدّت إلى زيادة حالات التنمر عبر الإنترنت، ولهذه الغاية تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لكشف هذه المخالفات قبل الإبلاغ عنها ومراجعتها من قبل المتضررين.
وتستخدم تقنيات الكشف (Detection Technology) للتدقيق في الصور ومقاطع الفيديو المنشورة، وللتحقق من عدم وجود إساءة أو تحرش ذات طابع جنسي، إضافة إلى التدقيق في السلوكيات لكشف وإيقاف الحملات الممنهجة الساعية إلى التلاعب بالمعلومات عبر حسابات مزيفة، لكنّها لا تؤدي دورها على الوجه المأمول، وفق مخايل.
تدعم هذه الاستنتاجات، دراسة أجرتها “منظمة العفو الدولية”، تؤكد تعرض السياسيّات لتحيز جندري وهجمات شخصية أكثر من الرجال على منصات مثل “إكس” (تويتر سابقاً).
وخلصت الدراسة إلى أنّ التغريدات المسيئة المُوجّه إلى السياسيّات وصلت إلى نحو سبعة في المئة.
التفاعل يجذب الأرباح.. والأحزاب هي الرابح الأكبر!
ويرى مدير برنامج الإعلام في منظمة “سمكس” للحقوق الرقمية عبد قطايا، أن النساء -بصفة عامة- يتعرّضن بطبيعة الحال لحملات أكبر؛ ما يخلق لديهن نوعاً من الرقابة الذاتية، فيفضّل العديد منهن عدم التحدث أو النشر، وعدم التعبير عن آرائهن؛ لتجنب حملات الهجوم الإلكتروني، مؤكداً وجود التحيز لدى الخوارزميات ضد المرأة، لأن مدخلاتها من “الداتا” المتاحة إلكترونياً، وهي متحيزة مجتمعياً بطبيعة الحال.
وعن أسباب تفضيل الخوارزميات إظهار محتوى الأحزاب مقارنة بالمحتوى الذي تنشره المرشحات المستقلات، يلفت قطايا إلى أن محتوى الأحزاب غالباً ما يكون إشكالياً، مصحوباً بتفاعل كبير على المنصات؛ والخوارزميات تفضّل هذا التفاعل، لأنها مصممة لجني الأرباح.
وهو ما يؤكده المتخصص في الإعلام الرقمي والتواصل، بشير تغريني بالقول: “للخوارزميات معايير تجارية سياسية، معطوفة على أهداف الشركات”.
في المحصِّلة، تبقى حالة السياسية اللبنانية ديمة أبو دية مثالاً على حالات كثيرة، لم تجد فرصة عادلة في المشاركة السياسية؛ بسبب خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، الداعمة للتحيز والانتشار والتفاعل.
أُنجز هذا التحقيق بدعم من «أريج» وينشر في «العالم الجديد» بموجب اتفاق