هل من الممكن ان تدعم الحكومات الاعلام المستقل؟
تذكرت هذا السؤال وانا أشاهد حلقة من برنامج بعد التاسعة على قناة العراقية كان ضيفاها الاخ الاعلامي فراس سعدون والآخر الدكتور علي الشلاه الشاعر وعضو البرلمان، أحالني البرنامج الى بحث كنت قد قرأته عن إعلام الخدمة المجتمعية، والذي كان يتطرق الى الكثير من تجارب هذا الحقل التي أخذت في غالبها تنحى منحى الاعتماد على المعلنين بالاضافة الى أموال الدولة التي تؤخذ من الضرائب التي يدفعها المواطنون العاملون.
هنا يشير الباحثون الى عدم الانصاف في هذه الصفقة، فالوسائط الاعلامية الاخرى تشكو من الظلم بسبب ان تلك الوسائط تدخل في تنافس غير عادل مع من لا تموله الدولة. لقد بدأت بعض الوسائط الاعلامية تسعى باندفاع لاستيعاب الشركات المعلنة، وتتخلى عن وظيفتها الأساس، وهي خدمة المجتمع.
لقد كان برنامج بعد التاسعة يناقش كيفية مساعدة تلك النوافذ الاعلامية المستقلة على الوقوف بدعم من الحكومة العراقية. وهل هناك امكانية ان يحدث هذا، وفي الاخير وصل ضيوف الاستوديو الى اليأس. الشاعر علي الشلاه كان مع تبني الدولة للاعلام الرسمي بمقابل الاعلام الحزبي من ناحية توزيع الاعلانات والتمويل.
هنا أود أن أرد على هذا اليأس بالحديث عن التجربة التركية التي عرج عليها البحث، وهو أن الحكومة في تركيا توزع الاعلانات الحكومية بالتساوي بين كل الوسائط الاعلامية بضمنها وسائط الاعلام الرسمي.
لندع جانبا ما قد يجنيه اردوغان، وانه يمكن ان يشتري هذه الوسائط الاعلامية لصالح سياسته ولنتحدث عن هذه التجربة ونحاول تطبيقها في العراق. إذ ان من يحصل الآن على اعلانات الدولة هي شبكة الاعلام العراقي حصريا بنسبة تصل الى حوالي 95% والبقية تذهب الى الوسائط الاعلامية الكثيرة في البلد. نود أن نشير هنا الى اللاعدالة في التعامل مع وسائط الاعلام. فالحكومة يمكن أن نستعمل هذه الستراتيجية من أجل أن ترعى وتقود العملية الاعلامية الى بر الامان، وهذا يؤثر على الوضع السياسي والسلم المدني في البلد. تستطيع الحكومة ان توزع الاعلانات وحتى المعونات لهذه المنابر الاعلامية المستقلة، وتشترط عليها عدة شروط في سياستها الاعلامية وان يكون بين الطرفين عقد اجتماعي، كأن يتم تبني الموضوعية في الطرح وعدم جر مكونات الشعب الى الفتنة الطائفية، وعدم خرق منظومة القيم التي تشكل اخلاقيات المجتمع العراقي. ويجب أن تعطيها الحق والحرية في نقد العملية السياسية والمشاركة في تشكيل خطاب بناء وتمهيد الطريق ربما الى التخلص وتفكيك ما يؤدي الى التناحر المذهبي عبر حوارات فكرية وفقهية رصينة.
فبدل أن تستمر الحكومة بالتشكي من الاعلام المضاد، ينبغي عليها أن تبدأ بالمبادرة، وان لا تفضل منبرا اعلاميا رسميا يبارك دائما أخطاءها ولتفكر في المجتمع ككل، ثقافته، ومكوناته الاجتماعية، وحريات جماعاته وافراده. يمكن ان تدعم الحكومة الاعلام المستقل بوسائل اخرى مثلا اقامة جوائز كبرى للفنون الاعلامية وللمنابر الاعلامية التي تسهم في تعزيز السلم المدني وتطور الخطاب الذي يؤدي الى ارتقاء في مفاهيم وقيم وممارسات المجتمع. لان أغلب الفئة السياسية جاءت الى الحكم بدون خبرات ادارية لقيادة مؤسساته قيادة سليمة فان عليها ان تعتبر الاعلام معينا لها ومشخصا لاخطائها وتسعى الى رعايته من هذا المنطلق. وفيما يخص الاعلام الرسمي فهو ايضا يحتاج الى من يقدم الخدمة المجتمعية عبر تنشيط الحراك الفكري والثقافي فهو بالنتيجة يقوم بالوظيفة نفسها التي ينبغي أن يقوم بها الاعلام الرسمي وقد يعينه بان ينقذه من الترهل والتكلس الذي يجمد ويشل المؤسسات الاعلامية الرسمية عبر دينامية عمله وحيوية افراده التي تقتلها بيروقراطية الاعلام الرسمي وانصياعه لحكومات زائلة مقارنة بالاهداف الاجتماعية والاخلاقية والثقافية التي تقود الاعلام المستقل.
*كاتب عراقي