تتجه التقييمات الامريكية، وقبلها الايرانية، للاقتناع بضرورة ترميم \”العملية السياسية الطائفية\”. ويلتقي الطرفان على الاعتقاد، بان العملية المذكورة، شارفت في الاونة الاخيرة على الإنهيار. وبعد الحسابات، تبين مرة اخرى، ان المصالح المتقاطعة الامريكية الايرانية في العراق، محكومة عموما بالتلاقي لاعتبارات مصدرها في العمق، الحقائق العراقية الثابتة، كما تنم عنها خصوصية هذا البلد، فايران يرعبها تحول العراق الى الفوضى، مع ما يؤدي اليه من احتمالات من قبيل قطع التواصل مع الساحة السورية. وإزاء هذا الهدف الاستراتجي الحساس للغاية، تتجاوز التقييمات الايرانية راهنا، على اهداف او احتمالات اخرى، قد تكون لها مصلحة في تحققها على الساحة العراقية.
واذا كان احد الاجنحة الايراينة، لا يرفض تقسيم العراق، ويحبذ ظهور كيان عراقي شيعي، يصبح ملحقا كليا بايران، الا ان مثل هذه الحصيلة، لم تعد تستند لمبررات قوية، ازاء الاحتمالات او الحاجات الاستراتيجية الحالية، والقصوى. هذا في حين تسود في الاونة الاخيرة إعتقادات تقول، بان ليونة ما يمكن يبديها الجانب الامريكي ازاء ايران في الملفات الرئيسية، الامر الذي يبدو ان الرئيس الايراني الجديد، تلقى بخصوصة إشارات مشجعة. وبعد المتغير السعودي الملحوظ، والسائر باطراد الى التفاهم مع ايران، وتؤيده الزيارة المعلنة لبندر بن سلطان الى موسكو ( بالمناسبة هي الزيارة الثانية بعد زيارة سابقة قام بها الى موسكو سرا قبل اكثر من شهرين)، لم تعد مستبعدة، احتمالات ازاحة في المواقف العامة اقليميا ودوليا، يضاف لذلك تزايد الشعور بخطل السياسية التركية، وانغلاقها، مع الاقتناع بتحول اردوغان الى عبء على التجربة التركية، من شانه ان يستجلب تصدعات تركية خطيرة، هذا غير الإحتمالات الاخرى المتعلقة بقطر ودورها المتراجع، بعد تغيير الامير بابنه، والاحداث في مصر. كل هذا اذا وزن بدقة، يشير الى تراجع في الجبهة القطرية التركية.
وعليه فان الآفاق الايرانية عراقيا، لم تعد متوافقة مع تبني \”المشاريع الصغيرة\”، اذا كان ترميم البناء على مستوى الكيان متاحا، وامكن تجاوز تصدعه وازمته المتفاقمة. وهذا ما يحتاج اليه لامريكيون ايضا، بعد ان وجدوا من ناحيتهم، خاصة بعد عملية اقتحام السجون، ان استشراء الفوضى، وانتشار العنف والارهاب في العراق، يترجم خسارة لهم، في زاوية استراتيجية حساسة. واليوم يعيد الامريكيون نظرتهم مرة اخرى الى العراق، فيكتشفون بعد فترة من غض الطرف او التهاون، بسبب الاحداث المتسارعة في المنطقة، مدى حيوية هذا الموضع. وتعود لتنتعش ذكريات الدوافع والاسباب فوق العادية التي دعت الامريكيين وقتها، الى شن حربهم على هذا البلد بالذات. وهذه الاحتمالات الخطرة، تدعمها معلومات تلقاها الامريكيون عن مخططات ارهابية خطيرة وواسعة، تضعهم امام ضرورة اعادة نظر سريعة لما وافقوا لفترة على نموه وتفاقمه، بعد ان اكتشفوا قبلا تعزيزهم بايديهم دور الارهاب و\”القاعدة\”، بموافقتهم ضمنا على رؤية استراتيجية، كانت تقف الى جانب تركيا وقطر، وحين بلغت ذروتها، انقلبت الى كارثة متوقعة، على الوجود الامريكي، ما ينسحب ايضا على عموم الحالة في سوريا، ويجعل الامريكيين الان، اقل ميلا لانتصار تحققه المعارضة السورية.
لهذا يلتقي الامريكيون والايرانيون، من ناحيتهم، على دفع مسعود البارزاني لعقد صفقته مع المالكي، بما يفضي لنيلهما معا فرصة للتجديد، وهو ما يحظى بتاييد الامريكيين، مع ميل امريكي الى زيادة ترميم \”العملية السياسية الطائفية القائمة\”، وربما تقوية احتمالات استمرار رموزها الحاليه في السلطة، الامر الذي عبر عنه تراجع وهج الاعتصامات في المنطقة الغربية، وبدء المصالحة بين الرموز المحركة، وحتى المتحالفة مع قطر وتركيا، من مثل العيساوي، للعودة الى المركز والتفاهم معه، ومع المالكي تحديدا.
هكذا يبدو التعقيد الاستثنائي للمسالة العراقية، وسياقات تطورها في اللحظة الراهنة، محيرا، بينما المعطيات والخلفيات، تنم عن صعود مقلق وشبه خفي، للوطنية العراقية من جديد، تنقصه حتى يتبلور، معطيات اساسية، مازالت تحرمه حتى هذه اللحظة من ابراز ذاتيته وحضوره الوطني وسط التجاذبات. غير ان هذه الحال التي هي من مخلفات وضع كارثي مديد، لا يتوقع لها ان تطول، والتراكمات الراهنة، لها مآل، سوف ينتهي اخيرا بظهور صوت العراق، المتناسب طردا، مع ما عاشه وما مر به من كوارث، تصعب على الوصف.
* كاتب وسياسي عراقي