صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

رئيسا الجمهورية والوزراء.. هل يحلان معضلات السياسة العراقية؟

في العراق، ما تزال النخبة والأحزاب السياسية التقليدية أقوى من مؤسسات الدولة. ولذلك، سيخوض الرئيس ورئيس الوزراء الجديدان معركة شاقة من أجل ترجمة التطورات الأخيرة إلى تغييرات هيكلية. الأولى في تاريخه، صوت البرلمان العراقي بحرية على اختيار الرئيس القادم للبلاد، مع فوز برهم صالح على

في العراق، ما تزال النخبة والأحزاب السياسية التقليدية أقوى من مؤسسات الدولة. ولذلك، سيخوض الرئيس ورئيس الوزراء الجديدان معركة شاقة من أجل ترجمة التطورات الأخيرة إلى تغييرات هيكلية.

*   *   *

للمرة الأولى في تاريخه، صوت البرلمان العراقي بحرية على اختيار الرئيس القادم للبلاد، مع فوز برهم صالح على منافسه بأغلبية ساحقة بلغت 219 صوتاً في مقابل 22 بداية هذا الشهر. وفي الماضي، كان التصويت البرلماني في الأساس مجرد وضع ختم المصادقة على ترتيبات معدة سلفاً.

على الرغم من أن عناصر صفقات الغرفة الخلفية القديمة ما تزال قائمة، فقد شكل هذا التصويت الأخير خروجاً وافتراقاً عن الماضي. وبعد الغربلة التي أحدثتها انتخابات الصيف الماضي، أصبح ثلثا أعضاء البرلمان من الأشخاص الحديثين في المنصب. وكشفت الحركة الاحتجاجية المتنامية عن خيبة أمل المواطنين من العملية السياسية في البلاد، مما زاد من الضغط على البرلمان. وتظهر محادثاتي مع العديد من هؤلاء النواب الجدد كيف أن تجزئة الكتل السياسية أصبحت تتحدى اتفاق تقاسم السلطة العرقي-الطائفي الذي ساد في العراق منذ العام 2003.

ما الذي بقي على حاله في السياسة العراقية؟

مباشرة بعد أن أدى صالح اليمين الدستورية كرئيس، كلف عادل عبد المهدي بأن يصبح رئيساً للوزراء وبتشكيل الحكومة المقبلة. وعبدالمهدي هو أول رئيس وزراء لا يأتي من حزب الدعوة الذي هيمن على السياسة العراقية طوال فترة ما بعد الغزو.

وفي حين أن التصويت الرئاسي شكل خروجاً على السياسة العراقية المعتادة، كان ترشيح المهدي من نوع صفقات الغرف الخلفية النمطية بين النخبة. وكان عبدالمهدي منذ فترة طويلة جزءاً من المؤسسة؛ حيث شغل منصب نائب الرئيس من العام 2005 إلى العام 2011، ثم وزير النفط في الفترة من العام 2014 إلى العام 2016. وكمرشح توافقي، وعلى الرغم من التفاؤل واسع النطاق، من المرجح أن يظل عبدالمهدي مؤتمِراً بأمر الأحزاب السياسية التي وضعته في السلطة.

لكي يصبح رئيساً، اضطر صالح أيضاً إلى خوض لعبة السياسة كالمعتاد، من خلال العودة إلى حزبه السياسي القديم، الاتحاد الوطني الكردستاني. وقد دفعت قوة الأحزاب في العملية السياسية صالح إلى العودة، لأنه لم يكن ليصبح رئيساً بغير ذلك على الأرجح.

على الرغم من هذه المظاهر التي تعبر عن استمرارية الترتيبات القديمة، تقدِّم عملية اختيار كل من صالح ومهدي رؤى واستبصارات مهمة في تجزئة المشهد السياسي العراقي.

تشكيل حكومة بينما تتجزأ الكتل التقليدية

منذ العام 2003، كانت الكتل الجماعية القائمة على الهويات العرقية-الطائفية إلى حد كبير تتحد خلال فترة تشكيل الحكومة. وفي أول انتخابات أجريت في العراق في العام 2005، كان اللاعبون الرئيسيون هم الفاعلون السياسيون الشيعة بقيادة الائتلاف العراقي الموحد والأكراد الموحدين في ظل التحالف الكردستاني. ومع وجود مثل هذه الكتل المتماسكة داخلياً، يمكن لكل زعيم أن يتفاوض نيابة عن كتلته. وخلال تشكيل الحكومة، كان يتم الانتهاء من معظم المفاوضات خلف الأبواب المغلقة، وكان البرلمان مجرد ختم مطاطي يصادق على تفعيل الصفقات التي أبرمتها النخبة.

تقليدياً، كانت أكبر الكتل هي التي تختار رئيس الوزراء ف العراق. وفي الماضي، كانت هذه دائماً هي الكتلة “الإسلامية الشيعية” المتحدة، التي تتوصل إلى توافق مع الأكراد في نهاية المطاف. وحتى في أكثر الأوقات اضطراباً، كانت المجموعات الشيعية تتمكن من الاتحاد خلال تشكيل الحكومة على الأقل. وفي العام 2010، بعد بضع سنوات فقط من خوض حرب داخلية وحشية، اجتمع مقتدى الصدر ونوري المالكي معاً لتشكيل كتلة موحدة.

لكن هذا كان بالكاد واقع الحال مع اختيار عبدالمهدي. وقد شرعت عملية تشكيل الحكومة المثيرة للفُرقة في هذا العام بفضح الطبيعة المصطنعة لتلك التراكيب العرقية-الطائفية للكتل. وانتهى المطاف بالجلسة الافتتاحية للبرلمان إلى الفوضى؛ حيث قامت “كتلة البناء” التي يرأسها هادي العامري، و”كتلة الإصلاح”، التي يرأسها القادة الصدريون، بتجزئة أي كتلة بقيادة شيعية. وعرضت كل من هاتين الكتلتين أرقاماً متعارضة في ادعائها بأنها الكتلة الأكبر. وفي أعقاب تدهور الأوضاع في البصرة، توصل العامري والصدر إلى تفاهم، واتفقا على عبدالمهدي. وفي يوم تعيين عبدالمهدي، ألمح الصدر إلى عدم أهمية الكتلة الأكبر، حين كتب في تغريدة على تويتر: “العراق أكبر من الكتلة الأكبر”.

كما كشف الاختيار الرئاسي عن انقسام مشابه. فلأول مرة، لم يستطع الأكراد التوافق على مرشح واحد للمنصب. وقد تحدى الحزب الديمقراطي الكردستاني قبضة نظيره، حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، على المنصب وقدم مرشحه الخاص، فؤاد حسين.

أصبحت الكتل الرئيسية في العراق منقسمة، في حين كافح القادة من أجل دفع أعضائهم المنتخبين حديثاً في البرلمان إلى الاصطفاف على أساس موقف الحزب. وفي داخل كتلة البناء، عبر رئيس إحدى الكتل عن تفضيله لصالح، في حين أعلن آخر دعمه لحسين.

لماذا كان انتخاب صالح برهم مهماً بشكل خاص

أخبرني العديد من أعضاء البرلمان بأنهم اتخذوا خياراتهم الخاصة بناء على المؤهلات بدلاً من الانتماء الحزبي. ولم يكن حسين قد شغل منصباً كبيراً من قبل، في حين أن صالح شغل منصب نائب رئيس وزراء العراق ومنصب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان. وانتقد العديد من أعضاء البرلمان الجدد الرئيس الحالي، فؤاد معصوم -وهو نتاج لصفقة في الغرف الخلفية- بوصفه ضعيفاً وغير فعال بسبب قلة خبرته.

في المفاوضات من أجل ترشحه الرئاسي، قال بعض العراقيين إن حسين بدا ضعيفاً بالمقدار نفسه، وهو الذي يجلس في أغلب الأحيان خلف زعيم حزبه، نيجيرفان برزان، الذي يتولى الحديث. وعلى النقيض من ذلك، كان برهم صالح يجلس في مقدمة المفاوضات بينما يجلس مسؤولو حزبه خلفه.

أخبرني أعضاء البرلمان من مختلف الائتلافات بشكل متكرر بأن الرئيس التالي يجب أن يدافع عن وحدة البلد وليس عن تقطيع أوصاله. وكانت هذه النقطة بالتحديد بالغة الحساسية، خاصة وأنها تجيء بعد عام واحد من إجراء الاستفتاء على استقلال المنطقة الكردية. ومع أن كلاً من حسين وصالح صوتا في الاستفتاء المذكور، فقد لعب حسين دوراً نشطاً في السعي إلى الانفصال، في حين ظل صالح بعيداً على الأطراف. وبعد انقضاء أقل من شهر على إجراء التصويت، اعترف صالح علناً بأن الاستفتاء كان فكرة سيئة.

في نهاية المطاف، تتحرك العملية السياسية في العراق ببطء بعيداً عن الصفقات العرقية-الطائفية التي حكمت مشهد ما بعد العام 2003. وفي هذه المناسبة، اختار أعضاء البرلمان رئيسهم على أساس تصوراتهم للكفاءة والأيديولوجية -وليس على الطريقة الموصوفة من زعماء كتلهم.

الطريق إلى الأمام

سوف تشكل التوترات مع النظام العرقي-الطائفي لما بعد العام 2003 الحكومة التالية، وسوف تعرِّف ولايتها. وحتى الآن، كشفت عملية تشكيل الحكومة عن أن الكتل التي بدت موحدة ذات مرة، والقائمة على أساس العرق-الطائفة، أصبحت مجزأة على نحو يُعقّد اتفاقيات الغرف الخلفية المعتادة. وقد أصبح القادة أقل قدرة على الاعتماد على الهوية ليتحدثوا بشرعية نيابة عن جماعات الناس، وأصبح بوسع أعضاء البرلمان الافتراق عن مواقف أحزابهم.

حتى مع كونه ختماً مطاطياً، يتمتع البرلمان العراقي بنفوذ يعتد به في العملية السياسية. وفي الماضي، كان قادة الكتل يوبخون المعارضين أو يفعّلون مشاريع القوانين التي يفضلونها، مثل القانون الذي أضفى الشرعية على “وحدات الحشد الشعبي”. وفي حين أن الفجوة بين المواطنين ونخبهم تتسع في كل أنحاء العراق، فإن هذا البرلمان الجديد يمكن أن يكون مؤسسة توصل أصوات الناس بدلاً من أن يكون أداة سياسة بيد النخبة.

ما تزال النخبة والأحزاب السياسية التقليدية في العراق أقوى من مؤسسات الدولة، ولذلك ستكون أمام الرئيس ورئيس الوزراء الجديدين مهمة شاقة لترجمة التطورات الأخيرة إلى تغييرات هيكلية، وهو ما يجعل أحداث بداية هذا الشهر نقطة تحول أكثر من كونها حالة شاذة مقطوعة عن سياقاتها.

*المقال للدكتور ريناد منصور زميل بحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في (تشاتام هاوس) ترجمته الغد الأردنية بعد نشره تحت عنوان: Can a New President and Prime Minister Solve Iraq’s Broken Politics?

إقرأ أيضا