بين ضوضاء قاعات مدرسة تفتقر إلى المدرسين، تتفاقم معاناة أيمن رعد، الطالب في إحدى مدارس ناحية البغدادي بمحافظة الأنبار، والذي حمل في حقيبته حلمًا بمستقبل أفضل، وجد نفسه في مواجهة نتائج صعبة، حيث رسب في معظم المناهج الدراسية هذا العام.
أيمن، البالغ من العمر 13 سنة، يدرس في الصف السادس الابتدائي، يضطر يوميًا إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى مدرسته، يروي قصته: “أحاول بذل كل جهدي لفهم الدروس بمفردي، ولكن غياب الكوادر التدريسية جعل المهمة مستحيلة، نعتمد أحيانًا على الطلاب الأكبر سنًا لمساعدتنا، لكن ذلك لا يغني عن وجود معلمين مؤهلين”.
معاناة أيمن ليست حالة فردية، بل تعكس أزمة أوسع تواجهها 1046 ﻣدرسة اﺑﺗداﺋﯾﺔ و469 ﻣدرﺳﺔ ﺛﺎﻧوﯾﺔ، و4 ﻣﻌﺎﻫد إﻋداد ﻣﻌﻠﻣﯾن توجد في المدينة، بحسب الموقع الرسمي لمحافظة الأنبار، لكن نقص الكوادر التدريسية تسبب في تراجع العملية التعليمية وترك الطلاب في مواجهة مباشرة مع الجهل.
في ظل هذه الظروف، ينتظر أيمن وآلاف من زملائه الجهات المختصة للعمل على سد هذا النقص، مؤكدًا “نريد فقط أن نتعلم، وأن يكون لنا مستقبل، التعليم هو حقنا الوحيد الذي نتمسك به وسط هذه الظروف القاسية”.
أما فيما يتعلق بالأسباب التي أدت إلى مشكلة نقص الكوادر التدريسية، يشير الباحث في الشأن التربوي، حيدر البياتي، خلال حديث لـ(العالم الجديد)، إلى عدة عوامل أساسية، تتضمن: “سوء توزيع التعيينات، التعيينات الحالية تعتمد غالبًا على معايير غير مدروسة، مما يؤدي إلى تكدس الكوادر في مراكز المدن وترك الأطراف دون تغطية كافية”.
ويقترح البياتي، “اعتماد آلية توظيف ترتكز على تعيين أبناء المناطق النائية، مما يشجعهم على البقاء في مناطقهم بدلًا من الانتقال إلى المدن”.
كذلك ضمن أسباب تفاقم أزمة الكوادر التدريسية في محافظة الأنبار، تظهر “حالات فساد في تعيين المدرسين، حيث تُفضل العلاقات الشخصية والمحسوبية على الكفاءة والاحتياج”، بحسب البياتي، الذي يطالب بـ”تشكيل لجان رقابية مستقلة لمراجعة تعيينات الكوادر وضمان الشفافية”.
يربط الخبير التربوي نقص المدرسين بـ”أزمة ضعف البنية التحتية في المناطق النائية، والمدارس في الأطراف تفتقر إلى الخدمات الأساسية، مما يجعل المدرسين يحجمون عن العمل فيها، فضلا عن الإنعدام لخطة وطنية شاملة تأخذ في الاعتبار النمو السكاني وتوسع المناطق”.
ويعاني النظام التعليمي في العراق من تحديات متعددة، أبرزها نقص الكوادر التدريسية المتخصصة، وهو ما انعكس على توجيه خريجي الجامعات نحو التدريس في مجالات بعيدة عن اختصاصاتهم الأكاديمية، ومن بين هؤلاء، مخلد عبدالله، الذي يعمل حالياً كمدرس لمادة الاجتماعيات على الرغم من أنه خريج بكالوريوس قانون.
تم تعيين مخلد في المناطق التي تواجه تحديات في توفير الكفاءات التعليمية، ورغم أنه لم يتلقَّ تدريباً أكاديمياً مباشراً في مجال التعليم أو الاجتماعيات، فإنه بدأ مسيرته التدريسية بلا دورة تدريبية لإعداد معلمي الطوارئ منذ عامين.
عن تجربته في تدريس مادة بعيدة عن تخصصه يقول مخلد: “لم يكن من السهل أن أبدأ التدريس في مجال بعيد عن تخصصي، درست القانون وكنت أتوقع أن أعمل في المحاماة أو القضاء، لكن الظروف الاقتصادية وقلة فرص العمل دفعتني إلى القبول بالتدريس، وأحاول تقديم أفضل ما لدي لضمان استفادة الطلاب”.
ويواجه مخلد صعوبة في شرح المفاهيم الاجتماعية والاقتصادية بشكل يتماشى مع منهج الاجتماعيات، كما يشير إلى أن غياب التخصص ينعكس سلباً على جودة التعليم الذي يتلقاه الطلبة.
فيما يختتم حديثه قائلاً: “أؤمن بأهمية التعليم، وأحاول تقديم كل ما أستطيع رغم التحديات. لكن الحل الجذري يكمن في إيجاد خطة طويلة الأمد تضمن توفير معلمين متخصصين لكل مادة، لتكون الأجيال القادمة أفضل تجهيزاً لمواجهة تحديات المستقبل”.
وشهد العراق تراجعاً كبيراً في مؤشر جودة التعليم الجامعي مقارنة بمكانته السابقة، حيث حلّ في المرتبة 85 عالمياً من أصل 218 دولة، والمرتبة 11 عربياً، وفق تصنيف منصة “إنسايدر مونكي”، يأتي هذا التراجع في ظل مقارنة مع تصنيفات منظمة اليونسكو خلال سبعينيات القرن الماضي، في عام 1977، أعلنت اليونسكو أن العراق تصدر ترتيب التعليم في الشرق الأوسط، متفوقًا على العديد من الدول، بما في ذلك دول اسكندنافيا. كما انخفضت نسبة الأمية بين الفئة العمرية 15-45 إلى أقل من 10%.
أصبح العراق اليوم ضمن البلدان التي تعاني من ارتفاع معدلات الأمية، مع وجود أكثر من 11 مليون أمي في البلاد بنسبة تتجاوز 47% من اجمالي العراقيين.
وحول إمكانية اتخاذ أولياء الأمور إجراءات قانونية ضد الإدارات التعليمية بسبب النقص في الكوادر، يؤكد الخبير القانوني إبراهيم السلطاني أنه “يمكنهم إقامة دعاوى قضائية ضد وزير التربية أو المدير العام، شريطة وجود أدلة تثبت تضرر أبنائهم من هذا النقص”، مضيفاً أن “هذه الثقافة القانونية ما زالت ضعيفة في العراق، بسبب الجهل بالقانون، رغم وجود مخصصات في الميزانية لتعيين كوادر تعليمية جديدة”.
وفيما يخص قضايا ملف افتقار محافظة الأنبار إلى الكوادر التدريسية، يشرح الباحث في الشأن السياسي، مهند الراوي، إن “أحد أسباب النقص هي الهجرة العكسية للكوادر التربوية من تلك المناطق إلى مركز المحافظة، ويتم ذلك من خلال توسط المسؤولين المتنفذين والأحزاب الحاكمة في نقل تلك الكوادر لتحقيق مكاسب حزبية انتخابية ضيقة على حساب الواقع التربوي”.
زيد علي، مدرس اللغة العربية، اضطر إلى ترك مدرسته ومدينته الأنبار والهجرة إلى العاصمة بغداد، في ظل النقص الحاد الذي تعاني منه مدرسته في الكوادر التدريسية.
هجرة زيد جاءت بعد أن رأى أن فرص الحياة والمعيشة في بغداد قد تكون أفضل، تاركًا وراءه فراغًا تعليميًا زاد من معاناة الطلبة في مدرسته الأصلية.
تكشف حادثة زيد، عن عمق الأزمات التي يواجهها قطاع التعليم، حيث يجبر المعلمون على الهجرة بحثًا عن ظروف معيشية أفضل، بينما تبقى المدارس تعاني من نقص الكفاءات التي يحتاجها الطلبة لبناء مستقبلهم.
يعلق الراوي على ذلك بالقول إن “غياب المجالس المحلية ومجالس المحافظات للسنوات السابقة وصمت ممثلي المنطقة الغربية برلمانيًا أدى إلى تفرد نواب المناطق الأخرى باستحواذ مكاتبهم الخاصة على عقود المحاضرين الذين تم تثبيتهم أو التعاقد معهم”.
حاولت صحيفة “العالم الجديد” الحصول على تعليق من وزارة التربية بشأن الموضوع، إلا أن الوزارة امتنعت عن التصريح، مشيرة إلى أن الملف يقع ضمن مسؤولية مديرية تربية الأنبار. بدورها، رفضت مديرية تربية الأنبار تقديم أي معلومات أو تعليق حول القضية.
وعلى الرغم من أن ناحية البغدادي تضم 89 مدرسة موزعة بين ابتدائية ومتوسطة وإعدادية، إلا أن هذه المؤسسات التعليمية تواجه تحديات عديدة تهدد مستقبل أبنائها. بحسب ما أكده عدد من أهالي المنطقة، فإن المشكلة لا تقتصر على نقص الكوادر التدريسية، بل تتفاقم بسبب تدهور البنية التحتية ونقص الأثاث واللوازم الدراسية الأساسية.
وشهدت محافظة الأنبار تدهورًا كبيرًا في بنيتها التحتية التعليمية نتيجة العمليات العسكرية والدمار الذي خلفه تنظيم داعش خلال فترة سيطرته على المحافظة. هذا الواقع أدى إلى تراجع ملموس في مستوى القطاع التعليمي، حيث تعرضت العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية إلى التدمير الكامل أو الجزئي، مما أثر على قدرة الطلاب على متابعة تعليمهم بشكل طبيعي، وأدى إلى زيادة معدلات التسرب المدرسي وضعف جودة التعليم في المحافظة.
وتشير تقديرات رسمية عن وزارة التربية إلى أن عدد المدارس التي تضررت كليًا أو جزئيًا بسبب الحرب الأخيرة بلغ أكثر من 2500 مدرسة في محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك وبغداد.
وبلغ عدد المدارس المهدمة في نينوى قرابة 300 مدرسة ومئات المدارس المتضررة جزئيًا، فيما تضررت أكثر من 1200 مدرسة بشكل كبير في محافظة الأنبار غرب البلاد، وأكثر من 150 مدرسة في ديالى، إضافة إلى مئات المدارس الأخرى التي تضررت جزئيًا، بحسبه.
وفي 3 أبريل 2024، أعلن محافظ الأنبار، محمد نوري الكربولي، عن توفير 8099 درجة عقد وظيفي ضمن قانون الموازنة المالية.
وفي 18 سبتمبر 2024، أعلنت وزارة التربية، مصادقتها على محاضر ملحق العقود لمديرية تربية الانبار البالغ 36932 عقد.
وقُدّر العدد الإجمالي للموظفين في العراق 4 ملايين موظف، بعد تعيين ما يُقدَّر بمليون موظف إضافي خلال فترة ما بعد 2003. وقد أدّى ذلك إلى ارتفاع كبير في مصاريف الرواتب للموظفين والمتقاعدين، إضافة إلى المصاريف التشغيلية، لتصل إلى نحو 90 تريليون دينار عراقي سنويًا (ما يعادل 61 مليار دولار). هذا الوضع يضع العراق أمام تحدٍّ اقتصادي خطير، خاصة إذا واجه العالم أزمة اقتصادية جديدة، ما قد يدفع البلاد إلى فخّ اقتصادي غير محمود العواقب.
ووفقًا لتقارير شبكة رووداو الإعلامية، منذ عام 2003، شهد العراق تفشي ظاهرة بيع الوظائف والدرجات الوظيفية في المؤسسات الحكومية، حيث يطلب مسؤولون نافذون أو مشرفون على التعيينات مبالغ مالية من المواطنين مقابل الحصول على وظيفة. وتختلف قيمة هذه المبالغ بحسب أهمية الوظيفة وإمكانية تحقيق دخل إضافي غير مشروع من خلالها، مثل تلقي الرشاوى. يتراوح سعر التعيين في وظائف التدريس بين 5 و10 آلاف دولار أميركي، بينما تتجاوز تكلفة التوظيف في المؤسسات المالية والخدمية الكبرى حاجز 100 ألف دولار.
حققت هذه الممارسات أرباحًا طائلة لأصحاب قرارات التعيين، في حين فشلت الحكومات المتعاقبة في القضاء على هذه الظاهرة بسبب تعقيد الشبكات المتورطة فيها وتورط مسؤولين كبار في الدولة.
إلى جانب ذلك، ظهرت ظاهرة أخرى تتعلق بسفر بعض الموظفين الحكوميين إلى الخارج للدراسة، مع بقائهم في مناصبهم واستمرارهم بتقاضي رواتبهم بشكل طبيعي، مما سبّب نقصًا فعليًا في عدد الموظفين العاملين داخل المؤسسات الحكومية، بالرغم من تخصيص ميزانيات ضخمة لبند الرواتب.
وبحسب وزارة التربية العراقية، يقدر عدد المعلمين والتدريسيين بنحو نصف مليون شخص، يشملون مختلف القطاعات التعليمية مثل التعليم الحكومي والأهلي والمهني وغيرهم.