رحيل

التقيته في مؤسسة أعمل بها منذ سنة، هادئ جدا، يكاد صوته يختفي ويتلاشى عندما يتكلم، لكنه ينطق بجمل توحي بثقافة مدفونة لا تود الخروج إلى العالم.
اقتربت منه أكثر في الأيام التي تلت لقاءنا الأول، كان يعمل مصححا لغويا، تناقشنا أنا وهو عن أوضاع البلد والحلول التي يجب اتخاذها، وماذا نحتاج نحن كعراقيين كي نحذو حذو البلدان المتقدمة.
اتضح لي في النهاية أنه مثقف مهم (رأيي الشخصي)، وله أفكار ووجهات نظر تحتاج أن تقف عندها وتتأملها كثيرا.
ومن ثم بدأت ملامح شخصيته تظهر بشكل كامل.
درس في الحوزة العلمية بالنجف الأشرف خمسة عشر عاما، ومن ثم انقلب على أفكارها بالكامل وصدم بالواقع، وبسبب هذه الصدمة اجتاحه مرض (السكر).
ـ من أين أتاك مرض السكر؟ هل هو وراثة؟
ـ كلا، بعد خمسة عشر عاما من التدين صدمت في الواقع وتغلب علي السكر.
أراه دائما يتصفح فيسبوك، اتضح في الأخير أنه ناشط مهم في فيسبوك ومؤسس لصفحة معروفة اسمها (بيت الوجدان الثقافي) مهتمة بالنقاشات التي تتعلق بجدلية الوجود والدين وغيرها من نقاشات تدور حول إشكالية الوضع في العراق. الذي أدهشني أن صفحته في غضون شهرين استقطبت أكثر من عشرة آلاف ضغطة إعجاب.
لا أريد الإطالة بالكتابة عن مواصفات هذا الصديق، لكنني جلست معه كثيرا وفاجأني عندما قال (إنني الآن أحزم أغراضي للذهاب أنا وعائلتي إلى تركيا ومنها سنتجه مهاجرين إلى أمريكا!!)
لم أحاول إقناعه بالبقاء، لكنني سألته:
ـ وماذا ستعمل هناك، تغسل الصحون؟
قال: سأغسل كل صحون العالم لكنني سأعيش بأمان وسأوفر لبناتي العيش الجيد واحترام المجتمع لهن، فهذا بلد لا نتيجة فيه سوى القتل والسرقة.
حسنا إذا، كم عقل مثل صديقي هذا غادر البلد وهو يرزم حقائبه حزنا وغصة؟ كم منا يود أن يهاجر إلى الأبد ولن يعود إلى هذا الوطن الذي تكسرت أبوابه وصار معبرا ثمينا لقطاعي الطرق والقتلة والسارقين؟
أحد أصدقائي الذين يقيمون في كندا منذ ثلاث سنوات قال لي قبل أن يقرر الرحيل: خطيتي بركَبة (بوش) لأنني كنت أعتقد بعد التغيير أننا سنأخذ أولادنا لمشاهدة مباراة ريال مدريد كل أسبوع!!
لكنه عرف اللعبة وصار محبطا بعد أن رأى أن العراق تتهافت عليه أسود الغول والتتر، وتمزق بأنيابها جسد حضارته الممدود بقوة عبر آلاف السنين.
سؤالي البريء هو: هل سيتغير الحال بعد عشر سنوات من اليأس والإحباط؟ وكم سنحتاج؟ هل سننتظر عشر سنوات جديدة؟
لا أعتقد ذلك، لأننا سننتظر إلى الأبد بينما أصدقائي الذين رحلوا سيوفرون العيش لعوائلهم باحترام، وسيشاهدون مباريات ريال مدريد وهم يبتسمون.
* كاتب ومسرحي عراقي

إقرأ أيضا