أنا مواطن عراقي غير مرتبط بأي من أحزابكم أو كتلكم، وقعت علي أعباء وتبعات ما اقترفتم من أخطاء قاتلة، كنا نحن ضحيتها ووقع علينا تأثيرها بعكسكم تماما، ولذا فان ما سأكتبه لاحقا هو صرخة مواطن عراقي استطاع التعبير عنها بخلاف الكثيرين غيره ممن لم تتح لهم قسوة ظروفهم وحالتهم الاجتماعية من التعبير عما يجيش داخل صدورهم وما يعتمل في خواطرهم من أنات وآهات وآلام بالإضافة، طبعا، إلى ما يحملونه من أفكار خلاقة لمعالجة مشاكل البلد على اختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية، لأنهم واقعون تحت ضغط المشكلات وليسوا طارئين عليها كما هو الحال مع أغلبكم الذين لا يجيدون غير تعطيل دور الآخر سواء كان هذا الدور ايجابيا أم سلبيا، فكانت النتيجة فشلكم جميعا في أداء واجباتكم تجاه البلد والناس الذين تتباكون -زيفا- على\”خدمتهم\”.
وما سأكتبه هنا لم تعتادوا على سماعه من مستشاريكم الذين أحطتم أنفسكم بهم بأعداد غير طبيعية لأسباب لا تمت لموضوع الاستشارة بصلة، ولو تمتعتم بالقليل من ثقافة الاستشارة لكان حال العراق وحالكم أفضل بكل تأكيد.
كنا قد صدقنا حلمنا بأن نهاية حقبة الدكتاتورية لابد أنها ستنتج نظاما يشعر الجميع فيه بالمساواة والعدل والأمان والحرية الشخصية التي بات بعضكم يقيدونها حد التدخل بنوع ملابسنا وما نأكل وما نشرب وما نسمع، جاعلا من نفسه مفوضا من الله في فرض سطوته على الناس الأمر الذي لم يدعيه حتى رسول الله (ص) (قل إنما أنا بشر مثلكم..) الآية.
وأكثر ما حطمتموه فينا وآلمنا كثيرا هو هذا الحلم البريء بتغير الحال، حين كان الحلم (زمن الدكتاتورية) مفتوحا بآفاقه الرحبة وآماله العريضة تشحذ هممنا وتدفعنا إلى المزيد من التضحيات في مقارعة ذلك النظام، عسى أن يخلفه نظام جديد نقيض للنظام البائد في كل شيء، نظام يفتح آفاقا جديدة للحلم الذي كنا نظنه قاب قوسين أو أقرب، وكانت النتيجة أنكم قتلتم فينا حتى إمكانية الحلم بعد أن أفسدتم علينا (الواقع) بفساد بعضكم، وإرهاب بعضكم، وتخويف بعضكم، وجهل بعضكم، واستخدام أغلبكم للدين والطائفة والقومية لمنفعته الخاصة التي بتم تغلفونها لنا بتسميات لم تعد تنطلي على أحد مثل شعار (خدمة المواطن)، و(المساواة)، و(ما يرضي الله)، و(محاربة الفساد)، و(الانتخابات النزيهة)، وغيرها مما استخدمتموه من شعارات زائفة هدفها الأخير والنهائي إبقاء وضعكم على ما أصبحتم عليه وإبقاء الناس على ما هم عليه، ولم يعد خافيا على هؤلاء الناس ما فعلتموه وتفعلونه، حتى صرتم مادة للتندر أكثر منكم مادة للنقاش الجاد، وصار حديث بعضكم عن (الانسحاب من العملية السياسية) يثير الضحك أكثر مما يثير الخشية على هذه \”العملية\” التي لم تنتج حتى الآن غير الفساد، والفشل الذريع، ووضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وكره الناس ومقتهم لكل من يتلبس بلباس الدين من السياسيين سواء كان في العراق أم خارجه، فقد كره أغلب العراقيين الرئيس المصري (محمد مرسي) لأنه كان يمثل (محمد مرسي) العراقي داخل رؤوسهم الذي وأد (الحلم) كما وأد محمد مرسي (حلم المصريين) بنظام جديد يكون نقيضا لنظام مبارك.
لم نكن نسمع لغاية سقوط النظام السابق بأن أحدا ما من العراقيين قتل أحدا بسبب انتمائه الطائفي إلا ما فعله صدام وزبانيته الذين حوكموا لهذا السبب الذي بات أغلبكم يفعله بميليشياته أو مجموعاته المسلحة دون حياء أو خشية من عقاب، حتى أصبح أغلبكم وكأنهم زعماء لعصابات مسلحة ومافيات أكثر منهم رؤساء أحزاب أو قادة سياسيين. وكان وصف شخص ما بأنه (سياسي) يحظى في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بالكثير من التقدير والتوقير لأنه قرين (المضحي) و(المتصدي) و(المناضل) و(الوطني)، فيما أصبح بفضل ممارسات أغلبكم حين وضع في موقع المسؤولية – بمحض الصدفة في أحيان كثيرة – يعني -بدون تحفظ- (المفسد) و(الانتهازي) و(الفاشل) و(المليشياوي) و(الطائفي) و(العنصري) و(المتلبس لباس الدين) وغيرها من الصفات التي تميز بها بعضكم عن جدارة مع سبق الإصرار والتصميم.
أعرف أن أغلبكم لا يشعر بالانتماء الحقيقي لهذا البلد، حيث أن بلد المرء هو حيث توجد عائلته وحيث يعبر عن نفسه بالطريقة التي يريد، وهما شرطان لم يتوفرا لأغلبكم بحكم أن أغلب عوائلكم ما زالت تسكن في البلدان الأجنبية التي كنتم فيها أيام المعارضة، وما زال أغلبكم لا يعبر-رغم ما يبدو عليهم من قوة- عن نفسه كما يريد وبالطريقة التي يريد بحكم تأثير الحاشية القريبة منكم والتي غالبا ما تكون على نمط تفكير ذي اتجاه واحد لا تحيد عنه رغم المتغيرات الكثيرة التي تتطلب عقليات من نوع آخر، وبحكم طبيعة الصراع مع الآخر للحفاظ على الحال التي وصلتم إليها ووضع أسسها (المحتل) إما بتدبير وتخطيط رصين كنتم أنتم أدواته، أو بخطأ استراتيجي ارتكبه حين وضع أسسا لانقسام مجتمعنا طائفيا وعرقيا ولم يكن فيكم من يرغب بتغيير الحال، لأنه بفضل تلك الفوضى الناتجة من ذلك القرار الاستراتيجي الخاطئ أصبح بعضكم على ما هو عليه، فكيف يمكن أن يفكر-مجرد تفكير- بتغيير الحال، خاصة في ظل انعدام الواعز الوطني الذي حل محله واعز آخر لدى غالبيتكم.
لم أتعرض في كل كتاباتي السابقة إلى أي منكم بصفته الشخصية، بل غالبا ما كنت أكتب عن ممارسات معينة أجدها لا تتوافق مع ما يتم طرحه من شعارات، فمثلا يتم التعدي على الناس وحرياتها الشخصية بذرائع شتى، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ الديمقراطية، ويتم إجبار الناس على تغيير نمط سلوكها وملابسها أحيانا، بحجة الحفاظ على التقاليد الإسلامية، الأمر الذي لم يوكل الله فيه أحدا حتى رسول الله(ص) (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا..) الآية.
كنت أكتب عن رؤيتي لما يجب عمله من أجل تنظيم وإقامة مؤسسات دولة حقيقية حين كنت -مصدقا الحلم- فقد كنت أشعر بواجب ومسؤولية الكتابة والعمل التطوعي في بعض الأحيان لأنني كنت أعتقد -خاطئا- بأن ثمة من يسعى منكم لبناء دولة حقيقية قادرة وفاعلة في محيطها، فكان دوري أن أساعده في مهمته التي لا شك تتطلب تضافر جهود كبيرة لبنائها بعد التدمير الذي لحقها جراء أربع حروب وثلاثة عشر عاما من الحصار الاقتصادي، حتى أني أجريت بمجهود شخصي وبمساعدة عدد من الأخوة والأصدقاء، استفتاء على مواد الدستور والتعديلات المقترحة أفضى إلى استنتاجات مهمة أولها أن المواطنين أقدر منكم على معرفة ما يتواءم مع طبيعة مجتمعهم وأكثر مسؤولية في التعاطي مع الاختلافات المذهبية والقومية والدينية وأكثر حرصا على أن يكون النموذج العراقي هو النموذج المثالي للمنطقة والعالم، وقد أدى ما توصلت إليه من استنتاجات إلى كتابة دستور عراقي بديل عن الدستور الحالي بطريقة جديدة آخذا بنظر الاعتبار ملاحظات المواطنين على فقرات الدستور والتعديلات الواجب إجراؤها، وقد أطلقت على الدستور الجديد اسم أو وصف (دستور الشعب).
ولأني بعيد عن السلطة ورجالها مسافة ألف عام، فلم أجد طريقة أفضل من إرسالها إلى الكاتب الأستاذ (محمد عبد الجبار الشبوط) باعتباره أحد المقربين من السلطة الحالية، ولا أعرف إن كان قد سلمها إلى من يهمه الأمر أم لا، لكني شاهدت أكثر من لقاء متلفز له يقترح فيها إجراء بعض التعديلات على الدستور مما ورد في (دستور الشعب) -قد أقوم بنشر (دستور الشعب) في هذه الصحيفة لاحقا- وحسبي أني عملت وكتبت، وحسبكم أنكم لم تقرؤوا ولم تسمعوا.
وكلما أتذكر ما قاسيناه زمن النظام البائد كلما تنامى إحباطي الذي أصبح مزمنا من إمكانية إصلاح الأوضاع، فالإحباط الذي أصبتمونا به إحباط مركب، فقد كان ثمة أمل يحدونا زمن النظام البائد بما كان يطلق عليه (المعارضة العراقية)، وكانت أولى قدحات الأمل التي نتذكرها زمن البعث ما كنا نعتقد أنه يمثل النقيض النوعي لحزب البعث وهو الحزب الشيوعي العراقي الذي تعرض إلى ما لم يتعرض له أي حزب سياسي عراقي منذ تأسيس الدولة العراقية، لكن هذا الحزب أيضا أسهم بإحباط الناس حين وقع -بتوصية وإرادة سوفيتية- على ميثاق الجبهة الوطنية مع حزب البعث الذي كانت نتيجته القضاء على ما تبقى من الحزب، وما تبقى من أمل لدى الناس، وفي حين ان الساحة الآن مفتوحة على مصراعيها لهذا الحزب لأن يقلب المعادلة السياسية في العراق، وكل ما يحتاجه هو تغيير وتيرة الخطاب السياسي إلى خطاب أكثر ثورية وأكثر جرأة وأكثر وضوحا وأكثر نقدا لما موجود وأقل دبلوماسية وأقل تمسكا لا واعيا بتعاليم ماركس ولينين التي بات الحزب يستخدمها لتبرير فشله السياسي المتكرر مثل (اللحظة التاريخية) و(الحتمية التاريخية) التي تتطلب -حسب ماركس ولينين أيضا- قيادة طليعية تستطيع قيادة الناس وتوجيهها نحو التغيير حينما تكون ثمة أزمة عامة تصيب النظام والمجتمع، فإذا كان كل ما يجري لم يلبِ هذه الشروط، فمتى يمكن أن تنضج الظروف أكثر منها الآن؟ هل بتم تنتظرون أنتم أيضا ظهور المهدي المنتظر (عج) انسياقا مع الموجةـ ولكي لا يزعل بعض أصدقائكم؟
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتنامي دور الأحزاب والحركات الدينية في العراق بسبب الضربات الموجعة التي تعرضت لها بقية القوى الوطنية على يد النظام، وبسبب ظروف الحرب والصراع مع إيران التي أسهمت بتقوية تلك الأحزاب والحركات، كنا نعتقد أن وصول هذه الأحزاب إلى السلطة في العراق لابد أن يشكل نقطة فارقة في تاريخ العراق والمنطقة، وستكون الفرصة مواتية للعراق للعب دور ريادي في توجهات المنطقة، وبالتالي نقطة تحول تاريخية كبرى لصالح شعوب المنطقة التي عانت ولا يزال بعضها يعاني تسلط دكتاتوريات لا تقل إجراما عن نظام صدام، ولكن سرعان ما أثبتت التجربة العملية أن هذه الأحزاب والحركات الدينية هي الأقل قدرة على التعاطي مع مشاكل البلد فكيف بالتالي يمكن أن تكون لديها القدرة على التأثير في شعوب المنطقة الأخرى؟ كما أثبتت أنها لا تستطيع الانسلاخ من طروحاتها الطائفية (الفئوية) فكيف بالتالي الافتراض بقدرتها على قيادة شعب متعدد المذاهب والقوميات والأديان كشعب العراق؟ ورغم (النصائح المجانية) التي قدمها بعض الكتاب والمثقفين العراقيين -بمن فيهم كاتب هذه السطور- لهذه الأحزاب والقوى بضرورة الابتعاد عن هذا النهج لخطورته على العراق والمنطقة بشكل عام، لأن الطائفية تحمل بذور نهايتها الحتمية من خلال تنميتها النزعات الطائفية المضادة داخليا وخارجيا، الأمر الذي باتت تغذيه دوائر ومؤسسات تقود المنطقة بشكل ممنهج نحو الصراع الطائفي الإقليمي الذي سيقود بالنتيجة إلى حرب طائفية إقليمية لا تبقي ولا تذر ولا تخدم مصالح أي من الدول العربية أو الإسلامية، وستكون نتيجتها جعل كل المنطقة مجرد سوق مفتوحة لكل ما تنتجه تلك الأطراف الدولية من منتجات، بالإضافة إلى ما يمكن أن تدره مثل هذه الحرب من مردودات اقتصادية كبيرة وقتها نتيجة سوق السلاح التي ستنتعش وتنعش اقتصاديات باتت تعاني أزمات مدمرة. وقد قلت وقال غيري ذلك، وكتبت وكتب غيري ذلك، ولكن (لقد أسمعت لو ناديت حيا..) ولا زلتم تقودون العراق والمنطقة بشكل عام إلى الكارثة التي ما بعدها كارثة، لأسباب شخصية تتعلق بالمصالح الشخصية للأطراف الداعمة لهذا النهج التي ستفقد كل حظوتها وسطوتها وسلطتها بمجرد التخلي عن هذا النهج الخطير والمدمر لكل شيء عدا مصالحها الخاصة وخدمتها لأطراف خارجية تقود المنطقة إلى صراع طائفي واسع النطاق.
مجلس النواب
تزداد المطالبات الشعبية بإلغاء الرواتب التقاعدية لأعضاء مجلس النواب، وهو مطلب مبرر جدا ولكنه متواضع جدا أمام حقيقة أن أعضاء مجلس النواب لا يستحقون رواتبهم الشهرية العادية والمخصصات التي يتخمون أنفسهم بها كل عام لعدة أسباب يقع في سلم الأولوية منها أنهم لم يؤدوا واجبهم كما نص عليه الدستور، لا في الرقابة ولا التشريع، فلم يحجب المجلس الثقة عن وزير فاسد أو وزير أخفق في أداء واجباته مثل وزير الكهرباء أو وزير الداخلية أو وزير التجارة وغيرهم كثير، ولم يشرع أي قانون من تلك التي ينتظرها الناس منهم. والسبب الآخر؛ لعدم استحقاقهم لرواتبهم هو ان اغلبهم مطعون قانونيا ودستوريا بعضويته، فقد حصل اغلب أعضاء المجلس الحاليين عضويتهم بطريقة تشبه طريقة التعيين وليست الانتخاب الحقيقي كما ينص عليها الدستور، فلم يفز في الانتخابات السابقة بعضوية مجلس النواب ممن تجاوز العتبة الانتخابية إلا أحد عشر عضوا، وبالتالي فان أي عضو حصل على عضوية المجلس بطريقة أخرى يعد فاقدا الشرعية، وكل ما تمخض وصدر عن هذا المجلس مشكوك في شرعيته الدستورية أيضا.
وعدا ذلك كله، فان أي جرد مستقل لتواجدكم-يا أعضاء مجلس النواب المحترمين- في موقع العمل يجعل من استلامكم لرواتبكم جريمة يحاسب عليها القانون. فكما تعرفون فان بعضكم لم يدخل مجلس النواب إلا مرة أو مرتين ومع ذلك فهم يتمتعون بكامل رواتبهم ومخصصاتهم القانونية وغير القانونية، بل يطالبون بمخصصات إضافية للملابس والطعام والسفر ومشاهدة الأفلام، ولا نعرف على ماذا سينفقون رواتبهم إذا ما صرفت لهم كل تلك المخصصات؟ ولماذا لم تثر فيكم تلك المطالبات غير المشروعة أية تحفظات أو خشية من ردود أفعال الناس؟ هل لأنكم أمنتم غضبهم وتأثيرهم؟ لأنكم مثلا تتواجدون في منطقتكم الخضراء المنيعة؟ أم أنكم تشعرون أنها فرصتكم الوحيدة للاستثمار فيها التي لن تتكرر لقناعتكم بعدم إمكانية انتخابكم مرة ثانية لأسباب بتم تعرفونها أكثر من غيركم؟ هل الموضوع هو موضوع مصالح شخصية بحت؟ وإذا كان الموضوع كذلك فلماذا هذا الصخب الذي تزعجون الناس به عن \”خدمة المواطن\” و\”إنقاذ الوطن\” و\”الحقوق\” و\”المساواة\”، هل هي المفردات المناسبة لإيقاع الناس في فخاخكم؟
المصيبة الكأداء التي تواجه الناس هي، من لهذه الناس لتصحيح الأمور إذا كان مجلس نوابهم الذي انتخبوه بهذا السوء؟ وكيف يمكن إجبار مجلس النواب على القيام بعمله خاصة وان الدستور لا يعطي حق حل مجلس النواب إلا لمجلس النواب نفسه؟ فهل ثمة مصيبة أكبر من هذه؟
يبدو أن العراقيين فشلوا مرتين في انتخاب من يمثلهم حقيقة، وقد خاب أملهم في من انتخبوهم كثيرا بدليل تنامي الانتقاد الشعبي لأداء مجلس النواب والحكومة التي انبثقت منه بطريقة عجيبة لا تخلو من مساومات وصلت حد انتهاك الدستور في عدة مواد، وقد كان السبب الرئيس لهذا الإخفاق هو اتفاق الأحزاب والكتل السياسية على تسخير كل موارد الدولة ومؤسساتها من اجل بقائها مجتمعة في السلطة، فعملت على إنشاء مفوضية انتخابات مسيّسة بالكامل رغم أن قانونها والدستور ينصان صراحة على وجوب استقلالها، وعملت كذلك على تسييس القضاء، وتقاسم الوزارات كأنها غنائم بينها إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها رئيس الوزراء التدخل في عملها أو محاسبتها على فشلها في أداء واجبها والى الدرجة التي يدعو فيها رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي علني إلى توجيه الانتقاد إلى الوزراء الذين أخفقوا في أداء واجبهم ومساءلة نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة حول الفشل في توفير الطاقة الكهربائية رغم الأموال الهائلة التي أنفقت على هذا القطاع! وكأنه زائر مر بطريق الصدفة في بلد اسمه العراق أخفقت فيه حكومته مدة عشر سنوات في توفير مجرد كهرباء لشعبها الذي يسكن ما يقارب خمس سكان عاصمته في العشوائيات فيما موازنته تعادل موازنات خمس دول مجاورة.
ولم يستطع مجلس النواب في دورتين انتخابيتين متتاليتين تعديل الدستور الذي يتفق اغلب أعضائه في أحاديثهم المتلفزة على ضرورة تعديله! بل لم يستطع إقرار النشيد الوطني للعراق وشعار الدولة وعلمها، بل يبدو أن بقايا البعث ممن يلبس لباسا إسلاميا داخل مجلس النواب نجح في إبقاء علم البعث بحجة ضرورة الإبقاء على جملة الله أكبر وكأن (الله) بحاجة إلى شهادة رسمية موثقة تثبت أنه (الأكبر) أي دجل هذا وأي نفاق!
ما الذي تجيدون عمله؟
هذا سؤال جاد يضع كل شيء في مكانه الصحيح، فإذا كان ثمة من فيكم يعتقد أنه يجيد فن الإدارة، فلماذا لا يأخذ دوره للارتقاء بالنظام الإداري الذي ينتمي في بعض مفرداته إلى عشرينيات القرن الماضي؟ ولماذا أصبح البلد طاردا للكفاءات، بل طاردا لشبابه بمختلف مستوياتهم التعليمية والثقافية؟ ولماذا يتم تعيين غير الأكفاء مدراء عامين وسفراء في حين لا يحظى أي شخص كفوء بمجرد التعيين في الموقع المناسب؟ لماذا مثلا هذا الفساد المستشري في دوائرنا ومؤسساتنا؟ ألا يثبت مجرد عدم معالجة آفة الفساد التي باتت تهدد حاضر ومستقبل البلاد عدم أهليتكم سواء كنتم أعضاء في مجلس النواب أو وزراء في الحكومة؟ وإذا كان فيكم من يجيد إدارة الملف الأمني فلماذا لم يأخذ دوره في تعزيز أمن البلد وسلامة أهله؟ أليست جريمة أن يشهد البلد هذا العدد المتصاعد من الهجمات الإرهابية دون أن تلجأ الجهات الأمنية لشراء أجهزة بديلة لهذا الجهاز البائس الذي اثبت فشله ميدانيا قبل أن يتم إثبات فشله قانونيا في البلد المصدر نفسه؟ هل تجيدون الدين -مثلا- لكي أحاوركم بما تجيدونه من أمر؟ ألم يقل الإمام علي (ع) لمن جاء يحثه على تسلم أمر المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان (أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا)؟ هل رفض أحدكم أي منصب أسند إليه -رغم عدم أهلية أغلبكم له- انسجاما مع ما يدعيه من الإيمان بعلي (ع) ونهجه؟ أم أنكم انشغلتم بقشور الدين لتثبتوا للناس أنكم على صلاح مثل ارتداء الحجاب ووضع \”نغمة إسلامية\” لباعة الغاز؟ هل بقيت الجوامع تؤدي وظيفتها الإصلاحية والتوجيهية أم أصبحت بفضل بعضكم أشبه بالمقرات الحزبية تتنازعون السيطرة عليها فيما بينكم؟ ألم يدعي أغلبكم الالتزام بخط المرجعية الرشيدة؟ ألم تحثكم المرجعية على تقديم الخدمة للناس، وحفظ أمنها؟ ألم تحثكم على تجاوز خلافاتكم؟ ألم تحثكم على الحفاظ على أموال وأرواح الناس؟
وإذا كان فيكم من يجيد حل معضلة الكهرباء التي أضحكت علينا العالم لكثرة ما كثر الكلام والمال المنفق عليها دون طائل، فلماذا هذا الإخفاق الذي لم يؤشر على من تبوأ منصب وزير الكهرباء إلا بعد مرور أربع سنوات كاملة على تبوئه لمنصبه؟ لماذا لا تتم المتابعة أسبوعيا أو شهريا أو حتى سنويا سواء لهذا الملف أو لغيره من الملفات التي لا تكتشفون خللها إلا عند اقتراب موعد الانتخابات؟ وإذا كنتم لا تجيدون شيئا فأعتقد أن الأوان قد آن لأن تغادروا موقع المسؤولية لمن يجيد فعل شيء، ما دام الأمر ممكنا الآن، وبعكس ذلك فستجبرون على مغادرة موقع المسؤولية بأحد السيناريوهات التي أزالت بعض الأنظمة التي لم ترتق لمستوى طموحات شعوبها.
نقمة النفط وأزمة الطاقة
لم يتم التفريط بثروة بلد مثلما يتم الآن التفريط بالثروات الطبيعية للعراق وأولها النفط، الذي يبدو أن شركاته الكبرى نجحت في إقناع المسؤولين العراقيين التعجيل في بيعه بأقصى سرعة ممكنة وعدم التفكير بتصنيعه وإنشاء مصاف جديدة \”تتطلب مخططاتها أربع سنوات كاملة\” (تصريح للسيد حسين الشهرستاني عند استجوابه في البرلمان حين كان وزيرا للنفط)! ويبدو أن المسؤولين العراقيين قد ابتلعوا الطعم، ما يبرر هذا السعي المحموم لمنح إجازات الاستخراج والتنقيب عن النفط التي رهنت ثروة العراق النفطية بأيدي الشركات النفطية، ويبرر كذلك الفشل في بناء مصفى نفطي واحد جديد رغم الحاجة الماسة والمتزايدة للمشتقات النفطية التي لا نزال نستوردها منذ السقوط وحتى الآن؟ في حين يلقي وزير الكهرباء باللوم على وزارة النفط في عدم تزويده بالوقود لمحطات التوليد التي تعمل بزيت الكاز والنفط الأسود (والمسخم).
اقترحت منذ عام ٢٠٠٤ أن يتم التوجه نحو بناء محطات كهربائية تعمل على النفايات التي تزخر فيها مدننا -بفضل دوائر بلدياتها غير الكفوءة ومجالس البلديات غير الفاعلة- وهو أمر لو تم منذ ذلك التاريخ لقضى على مشكلتين مستعصيتين هما توفير الطاقة بعد فشل وزارة النفط في توفير المشتقات النفطية لمحطات التوليد المتخلفة التي نصبتها وزارة الكهرباء لاحقا، والقضاء على النفايات التي ننفق عليها منذ ذلك التاريخ مبالغ مهولة كان يمكن تسخيرها في مكان آخر، وكذلك اقترحت -واقترح غيري كثير- أن يكون الخيار الثاني هو بناء محطات لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، علما أنه لو تم إتباع هذه الطريقة منذ ذلك الحين لتم تسديد كلف هذه المحطات من قيمة الوقود للمحطات المساوية لها بالقدرة التي تعمل بالوقود خلال مدة عامين فقط، فكم هي خسارتنا خلال السنوات العشر الماضية؟ وكم كان الحال سيكون مختلفا لو كلف أحدكم نفسه الاستماع إلى الآخر؟ وبالمناسبة فاني اتصلت لهذا الغرض بالسيدة آمال الموسوي إحدى مستشارات رئيس الوزراء في ولايته الأولى، التي لم تكلف نفسها عناء الاستماع لمقترحي وأحالتني إلى شخص آخر كنت أعرف ما كانت تجهله عنه مما يمنعني كبريائي من لقائه، ولم أكتف بذلك بل أرسلت المقترح عبر البريد الالكتروني لمن اعتقدت حينها أنه يهتم. لكن أغلب الأجوبة التي تلقيتها كانت لا تخرج عن (احنه ليش عايزين نفط حتى نسوي محطات تشتغل عالنفايات والشمس)؟ ولا أظن أن ثمة من يفكر فيكم بطريقة مختلفة.
الأمن
ما زال جنودنا وأفراد الشرطة يستخدمون جهاز كشف المتفجرات مع أن البريطاني الذي صدرها للعراق حوكم بتهمة الغش بعد أن ثبتت عدم فاعلية الجهاز، وبعد اعتراف القادة العراقيين أيضاً بهذا الأمر! ولا أريد الخوض كثيرا في هذا الموضوع الذي أشبع كتابة ونقدا، ولكن أين تكمن الجريمة في هذا الموضوع؟ لماذا مثلا لم يتم اختبار الجهاز قبل التعاقد عليه؟ ولماذا لم يصار إلى استيراد جهاز آخر من تلك التي ثبت نجاحها لدى الدول الأخرى؟ أليست جريمة أيضا عدم استيراد جهاز فعال بعد التأكد من عدم جدوى وفاعلية هذا الجهاز؟ عندما سألت مثل هذه الأسئلة أحد ضباط الأجهزة الأمنية أخبرني بأن سبب ذلك يعود إلى خشية الضابط المسؤول عن استيراد مثل هذه الأجهزة من أن تكون عاقبته كعاقبة سلفه (جهاد)؟ فقلت له إن حل ذلك بسيط جدا هو أن يتم الاتفاق مع الجهة المصنعة على إخضاع الجهاز للتجربة العملية مدة من الزمن وفي حالة نجاحه ميدانيا يتم التعاقد معها على العدد المطلوب؟ فوجئ الضابط بفكرتي وكأني ابتكرت ابتكارا، وقال نعم صحيح لماذا لم يتم ذلك؟ سأتصل بأحد الأشخاص وأخبره (بهذه الفكرة الجهنمية)! أصحيح يتم استيراد أجهزة بهذه الأهمية دون إخضاعها للتجربة الميدانية؟ أصحيح أن الضباط بالدرجات والوظائف العليا بهذه السلبية؟ ومن المسؤول عن هذه الفوضى وهذا الهدر بالمال العام؟
خدمة مجانية للبعث
لم يقدم أحد خدمة للبعث أكبر من الخدمة التي قدمها له بعضكم بعلم منه أو بجهل، فما كان للبعث أن يثبت عدم أهليتكم للمسؤولية أكثر منكم، وما كان البعث سينجح في إقناع الناس بجدوى الدكتاتورية أكثر منكم، وما كان البعث سينجح في إقناع الناس بعدم جدوى الديمقراطية والانتخابات أكثر مما فعلتم حتى الآن؟ وما كان البعث سينجح في إقناع الناس بأن ثمة من سيسيء استخدام الفيدرالية أكثر مما فعل بعضكم؟ وعدا ذلك فلم يكن أحد ليظن أنه سيأتي اليوم الذي سيقارن الناس فيه -مجرد مقارنة- بين زمن الدكتاتورية و\”حسناتها\” وبين زمن الديمقراطية و\”سيئاتها\” إلا حين فشلتم في إبعاد الناس عن التفكير في هكذا مقارنة، الأمر الذي رفضه رفضا قاطعا صديقي العزيز علي العاملي قبل سنوات حين قارنت ما كانت عليه ميزانية العراق زمن الدكتاتورية وميزانية العراق زمن الديمقراطية، وقال لي بما يشبه النصيحة \”زجرا\” (لا تقع في فخ المقارنة) أعتقد أنه والعديد غيره قد وقعوا في هذا الفخ الذي أطبقته علينا ممارساتكم طوال السنوات السابقة التي لم تنتج سوى الفشل والقتل الطائفي والفساد والفوضى الصاخبة.
إصرار كتلة \”دولة القانون\” على إدراج قانون تجريم البعث في مجلس النواب ومقاطعة جلسات المجلس ما لم يدرج هذا القانون للمناقشة، أثار عندي أسئلة كثيرة أولها هل سيغير إدراج هذا القانون من الواقع المرير شيئا؟ لماذا لم تقاطع كتلة دولة القانون جلسات المجلس لإجباره على إقرار قانون \”البنى التحتية\” مثلا وهو قانون كان سيحقق شيئا ما على أرض الواقع؟
وإذا كان موضوع البعث يقع في سلم الأولوية بالنسبة لكتلة دولة القانون، فلماذا قبلت باستثناء كل من صالح المطلك وظافر العاني من قانون الاجتثاث حين تم استبعادهما من الانتخابات الماضية بقرارات هيئة المساءلة؟
ولماذا لم تمارس كتلة دولة القانون هذا الضغط على مجلس النواب لإقرار أي تشريع له تأثير حقيقي في حياة العراق والعراقيين؟ لماذا مثلا لم تمارس هذا الضغط لإقرار التعديلات الدستورية التي تؤكد هذه الكتلة قبل غيرها ضرورة إجرائها منذ الدورة الانتخابية السابقة؟
أعرف أن الدعاية الانتخابية أحيانا تستلزم خطابا يثير مخاوف الناس ويطرح البديل الذي يتناسب مع التحدي الذي يتم تضخيمه في اغلب الأحيان للحصول على أفضل النتائج، وبسبب ما تعرض له شعب العراق من تنكيل وقهر زمن البعث، يتم التلويح والإشارة إليه بمناسبة وبغير مناسبة عسى أن يحث ذلك الناس على انتخاب الكتلة الأكثر تشددا في موضوع البعث، وفي هذا الموضوع تكمن حقيقتان، الأولى أن الناس ملوا هذه الطروحات وعلموا أنها لا تعدو أن تكون طروحات انتخابية، وثانيا أن الناس قد لمسوا فشل السياسيين الحاليين في إدارة البلد وهذا ما سيؤثر في إرادتهم وليس الخشية من البعث الذي أصبح شيئا من الماضي، فالناس تبحث عما يفيدها في حاضرها ومستقبلها آخذة بنظر الاعتبار تجربة السنوات الماضية التي لم تثمر عن شيء، خاصة وأن تلك السنوات شهدت حملات رسمية وغير رسمية ضد البعثيين، في حين لم تسفر عن شيء يذكر على مستوى الخدمات والتعليم والصحة والأمن ومكافحة الفساد ومحاربة الجريمة المنظمة التي أصبح قادتها في بعض الأحيان يفرضون إرادتهم على مؤسسات الدولة ومسؤوليها بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث.
* كاتب وباحث عراقي