نعم يمكن ان نصنّف الروائي الناجح بوصفه رسّام السرد ومهندس تدفق اللغة.. تلك المقولة ليست لي إنما من مقابلة قديمة نسبيا للروائي التركي (اورهان باموق) بحوار خاص بعد تتويجه بجائزة نوبل عن الرواية.. وهنا اقتبس نص مقولته لأنفذ خفيفا الى رواية (قتلة) للروائي ضياء الخالدي، معتبرا إياها مدخلا مناسبا لتفحّص فن الرواية العراقية.
الرسم بالكلمات أو هسهسة اللغة، تلك آلية ليست جديدة إنما هي توضّح قدرة المؤلف، في بلوغ أهدافه المرسومة من خلال رسم ملامح شخصياته بتراتبية ملامح المكان قبل لحظة الشروع في المرحلة الأخيرة من تدوين وقائع الرواية، وعينه تراقب اختمار وجوه شخوصها ونضج أو بلوغ سن الرشد لحركة الشخصيات.. وما تبقى سوى لحظة واختيار الانسجام المناسب بين نوع وظاهر اللغة التي يتحدث بها الشخوص.. كل الشخوص بمن فيهم السارد الداخلي (عماد الغريب)، ينتقل الرسم الى حركة لأحداث مرسومة في الخريطة لنقلها الى باطن اللغة وتحت مراقبة وعي المؤلف.. هذا ما حاول ضياء الخالدي من محاولة الارتقاء براويته هذه الى مصاف اقل ما يقال عنه انها رواية ناجحة مضافة الى قلائل الرواية العراقية الجديدة التي مواكبة الحدث الساخن متماهيا مع تاريخية لحظة الكتابة رغم غائمية المشهد.
تمكن الخالدي من ارتشاف عصير مفهوم (الرواية الجديدة الناجحة) بل وأدرك حقيقة مفازات الخرائط التي تؤدي الى هكذا نوع من الروايات التي كتبت لتبقى وليس لتقرأ فقط.. كتبت لترسم ملامحنا نحن على الورق.. كتبت لتنطق باسمنا.
(تحيط بالسيدية جدران إسمنتية تمتد بمحاذاة الشارع الرئيس، وهناك فتحة في الكونكريت وقفت عندها طفلة ترنو للعالم الخارجي – ص109) هذا النص المقطوع من الرواية تجسّد بصريا في مشهدية الغلاف مدللا على دقّة الاعتناء بكل حيثيات دعم جدّية السردية العراقية الجديدة والمنطلقة بكل اشتغالات المجد لتبوّء مكانتها في المشهد السردي العالمي.. ذلك الطموح يبرز من تنوع الكم الكبير من تدفق الرواية العراقية الى الشارع الثقافي المنحسر نسبيا.
غاصت شخصيات الرواية متوغّلة في بطن التاريخ العام للبلد- الملتبس فكريا وهو يلقي بظلال شفيفة على الشخصيات العامة.. عماد وديار وعبود وشكرية وبلال بوصفهم الشخوص التي تجري الأحداث في أفلاكهم، غير ان المؤلف ذهب أكثر من ذلك مدركا لأهمية العلوم الإنسانية في إدراك المحتوى العميق لحركة الشخوص فوق مساحة مفاهيم التاريخ وعلم الاجتماع المعاصر، فما بالك ب(عماد الغريب) بعد استبيانات سيرته الذاتية في بدايتها كانت متأثرة بالمد الماركسي إبان فترة الستينات (ص13) ومن خلال تأثره بأفكار صديقه ديار وأخيه سلمان.. وهما شخصيتان تعاني كل واحدة منها انكسارات نفسية حادة أو تطلعات وطنية وهموم جمعية سائدة آنذاك، ثم يأتي المد القومي–البعثي ويتأثر عماد أو يركب موجة البعث لحين معين، وفي نهاية المطاف (خريف العمر) ينتهي الى تبني الأفكار الإسلامية في تمظهرها.. فتراه يصلي في الجامع ظاهريا ويحتسي الخمر داخل البيت باطنيا كواحدة من شيزوفرينية عراقية خالصة.. في خريف العمر نجد الشخصية وفي أعلى أزماتها وحصاراتها وهو يتخبط للبحث عن مخلّص جديد يتشبث عماد بالجن والسحر كحلول أخيرة لأزماته المحبطة جراء العيش في وطن الأزمات بعكس شخصيات أخرى تجرّب الهجرة (ديار وعبود) ثم العودة بفكرة الانتقام.. وإذ تطرح الرواية فكرة الانتقام كمخرج أخير للخلاص حيث تقع معظم الشخوص في محيط الجريمة، وتلك واحدة من أمراض الشخصية العراقية بعد سني الحروب والحصار.. استطاع الخالدي لتجسيدها في سرديته على نار هادئة تتصاعد كلما توغلنا في أعماق الرواية..
هذا المسار الذي رسمه المؤلف مستفيدا من التاريخ المعاصر من العيش في نهاية الحقبة الملكية بافتراض البطل انه من تولد 1946 حسب معطيات الأحداث ومنتقلا للعيش في كنف تقلبات عصور الجمهورية الدموية ص(62).. ليخلق موازنته بين المعطى التاريخي وأزمة البطل المستديمة، في ظل الأحداث المصاحبة كما هي اجتراحاته الشخصية في تقلبها بين أفكار متناقضة ومتصارعة.. بالنتيجة فذلك معطى من معطيات علم الاناسة وعلم الاجتماع لإدراك ما يحدث من فجائعية الشخوص الدائرة في حلقة الوطن.. وتلك واحدة من مقومات الرواية الجديدة أقول الجديدة ولا أقول رواية المتغير ما بعد الـ2003 كما يحلو للبعض تسميتها في بناء فني دون زوائد ونسج ثيمة حكائية بتقنية ذات أبعاد واضحة المعالم لمجموعة أوسع للقراء.
الرواية تبدأ في ضخ جمل قصيرة متسلسلة ترسم المسارات العامة بإشارات زمنية (الليل ممطر في بغداد) ثم رسم المكان للشخصية التي تعيش في منطقة عراقية ساخنة (السيدية) وأماكن أخرى لمسرح الرواية مثل شارع السعدون وحي الشرطة وباب المعظم قاعة حوار وكركوك – الطريق العام.
استطاع الخالدي رسم جغرافية المكان بمعرفة مؤكدة لكل ملامح خراب أمكنته وعين متشبّعة برسم ملامح أبطاله.. تلك أماكن عراقية ساخنة إبان زمن وفعل الروي الجاري.. نحن في شهر تشرين الثاني من عام المأساة العراقية (2006).. العام الذي تشتغل عليه الرواية العراقية بحميمية، كما اشتغلت عليه أكثر من رواية عراقية (حارس التبغ لعلي بدر- قتلة لضياء الخالدي – عجائب بغداد لوارد بدر السالم – يا مريم لسنان انطون) وتلك الروايات تنتمي الى الرواية العراقية الجديدة بالمفهوم الجديد للرواية الجديدة.. العام الذي تمفصلت به المأساة العراقية واتضحت حدة الصراع وتناقضت شخوص الواقع وانسجامها في السرد الروائي.. حيث ظهرت صور واضحة للحرب الأهلية العراقية بكل اغترابات الواقع..غير أن الجديد في قتلة إن الخالدي استطاع التخلص كليا من الشغف السردي في تبني فكرة البطولة الايجابية للشخصية المحور،فقد استطاع ان يتحول السارد الداخلي على لسان شخصية سلبية (قاتل) رغم كل الجنوح نحو تبني الأفكار الوطنية لإزاحة القتلة من الشارع العراقي.. (راسكولينكوف) شخصية ديوستوفسكي الرئيسة في الجريمة والعقاب هي شخصية سلب-ايجابية كما هي شخصية عماد الغريب، فالغريب يسعى مسعى خيّر بتبنّي أساليب شر- دنيئة.. وتلك هي عقدة روح الحكاية المتبناة قي ثيمة الخالدة.. فالأفكار السليمة لا تنسجم مع وقائع إجرامية لدى صميم الشخصيات.. كل هؤلاء الشخوص تحولوا إلى قتلة ومارقين رغم صفاء السريرة.. وتلك إشارة من محمولات رمزية أراد الكاتب أن يوصلها بواحدة من رسائله في نسيج حكاية رواية قتلة..
رغم أن الرواية أصابها الوهن في صفحات قليلة جدا من الترهل.. إذ وقعت الرواية في نهايتها في واحدة من أمراض الراوية العراقية المتجذرة في مخيال الكاتب السردي العراقي في فصول قليلة من الرواية (الفصل السادس والسابع) التي لو شطبت أو ألغيت لم تؤثر في بنية أحداث الرواية، مع العلم انه أرادها رواية أحداث وليس رواية أفكار رغم انه لعب اللعبة الروائية الحاذقة في ضخ جملة الأفكار المتلبدة في فضاء سردي ومخلّصا إياه من شعرية اللغة السردية التي تقع به مجمل الرواية العراقية وتلك محسوبة لنجاح روايته..
الخالدي كتب روايته (قتلة) وسجلّ الارتقاء في قائمة قصيرة لكاتب ينبثق في مقدمة كتّاب الرواية العراقية.