لم أقف على تحديد واضح لمفهوم الايقاع، الذي يقترن غالبا بالوزن والموسيقى في القصيدة، لكني لست بصدد تقديم شروحات مفصلة لغوية واصطلاحية لمفهوم الايقاع وكل ما اسعى اليه هو الايقاع بوصفه المعنى الخفي للاشياء المقترن بالاحساس الفردي لكل منا بالمكان والزمان والاصوات في صمتها وحركتها، والطقس بفصوله، والعلاقات الانسانية بتقلباتها واشتباكاتها. ذلك الاحساس الذي يتميز به الاشخاص فيكون لاثر الاحداث عليهم وقعا مختلفا يقترن يقدرتهم على التعاطي مع ثاثيرات المحيط بشكل يبرز فرادتهم واختلافهم عن الاخرين. انه ايقاع الفعل ورد الفعل ممزوجا بالاحساس والتفاعل النابض بالحياة حتى في قلب الموت والخيانة والدمار.
هذا ما سأبحث عنه في قراءتي لرواية (ابني اليهودي) للكاتب كامل عبد الرحيم وهو مهندس وكاتب عراقي تنوعت كتاباته بين الشعر والشؤون السياسية غالبا واحسب ان هذه روايته الاولى التي صدرت عن دار سطور في بغداد 2017. قبل الشروع في قراءتها حسبت ان هذه الرواية تنتمي الى جملة من الروايات التي تناولت الشتات العراقي الذي تمخض عن الحروب والسياسة الغاشمة التي تحكمت بمصائر العراقيين ردحا طويلا من الزمن. حيث بطل يضطر لمغادرة بلده ووشائج تجمع العراقيين من ملل واديان مختلفة يهود ومسيحيين ومسلمين، هذا النمط الذي انتشر في روايات بعد عام 2003 كما في روايات انعام كجة جي ونجم والي وسنان انطوان وغيرهم.
غير ان هذه الرواية تمتلك عناصر تفرها المقترن بعالم الشخصيات وترابطها الروحي وحضورها الانساني، مما شكل ايقاع الرواية الخاص، فالمركز الذي ينطلق منه السرد ويتشكل هو انسان خاص يحتل في الرواية موقعا دقيقا ومضبوطا سواء في الزمان او في المكان وهو شخصية (كاظم) الذي يتولى بداية سرد حكاية اسرته ابتداءً من اواخر السبعينيات في بغداد وتصاعد وتيرة الاحداث مع اكتشاف انتماء ولده جابر الى تشكيلات شيوعية. وبين مركزية شخصية كاظم الفطرية والذكاء التجاري الذي يتحلى به وروحه الوثابة لاقتناص متع الحياة، وشخصية ولده جابر المتصوفة والزاهدة والباحثة عن عمق الاشياء تمضي احداث الرواية، (رغم ان جابر ورث عن ابيه ذكاءً تجاريا وموهبة في صياغة الذهب). تاتي باقي الشخصيات لتدور في فلكمها وتكتمل حكاية اللعب بالمعاني بين الاب والولد. يقول جابر لابيه رداً على سؤاله عن سبب تورط جابر مع الحزب الشيوعي، “أنا أيضا العب كماتلعب وكما علمتني ايضا، ان نلعب بالمعاني والمعاني يا ابي لانجدها الا في الوحول، الم تقل لي ذلك مرة؟”. ص10
في هذه الرواية تحضر تقنيات تسريع الحكي بشكل واضح مما يخلق لدى القارئ احساسا بانه يلهث امام تصاعد الاحداث واحتفاء السرد بها ومايترتب على هذه الاحداث من تغير في مصائر الشخصيات وتحول في الاماكن بين بغداد والمغرب والكويت وقبرص ودمشق وكوبنهاكن حيث تمزق نسيج عائلة كاظم بتوزع اولاده بين هذه الدول ثم هجرته اخيرا الى كوبنهاكن، سرعة سردية خلقتها تقنيات حكاية اعتمدت الحذف حين يكتفي السارد باخبارنا ان سنوات مرت من عقد السبعينات قبل الولوج الزمن الحرب في الثمانينات مثلا.. كما تجنب السارد تقنيات الابطاء السردي المشاهد/ الوقفات الوصفية التي يستغرقها الراوي بوصف الامكنة والاحوال التي تمر بها الشخصيات الا في اضيق الحدود كما في وصفه لبيته وزوجته خديجة في حي العدل غربي بغداد في جانب الكرخ “وكان بيتنا كبيرا مشيدا على الف متر مربع، يشتمل على حديقة مساحتها مائتان وخمسون مترا مربعا وبناؤه متداخل بغرف كثيرة وديوان للضيوف وحمامات ملحقة بكل ذلك ومطبخين ومكان مخصص لشواء اللحوم والاسماك وكذلك ست عشرة غرفة نوم موزعة على طابقين، كان البيت عبارة عن خلية نحل تديرها خديجة بمهارة بمعونة طباخة ومنظفة وحارس ص7″، يمكن ان نعد هذا المقطع اطول وقفة سردية في رواية ابني اليهودي ولضرورة سردية جعلت القارئ يقف على المستوى الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيش فيه كاظم واسرته.
هذا الايقاع السردي السريع خلق التنوع في الوحدة مما واضفى جوا من التحفيز القرائي وحفظ للمتلقي شغفه في التتبع والملاحظة، كما ان اهمال وصف الاشياء والاماكن صب في مصلحة الشخصيات وافعالها والاحداث المحركة لدوافعها، وهذا ما اسميناه في هذه المقالة بالايقاع الانساني للنص الذي يحفل بالافعال والمشاعر اكثر من الوصف والاشياء.
يصور كاظم عالمه المشحون بصداقات متنوعة عكست نسيج المجتمع العراقي وقتها بين شيوعيين وبعثيين وقوميين ويرسم صدماته المتنوعة مع الشيوعيين الذين وصفهم بقلة الوفاء. ص26 بينما ظلت علاقاته مع الاخرين ترتبط بمدى قدرتهم على الصمود من اجل الحفاظ على العلاقة والمودة. اما جابر فقد كون علاقة روحية مع جلعاد اليهودي الذي التقى به في مشفى في المغرب اثناء تلقيه العلاج بعيدا عن اسرته فصار جلعاد رفيقه وشريك الدم والروح حين تبرع له باحدى كليتيه بينما منح جابر جلعاد العائلة التي افتقدها بسبب انفصال والديه يقول جلعاد عن هذه العلاقة:( فوجدتني جملة مفهومة، او بالاحرى جملة مفيدة فسعدت بنفسي بعد كراهيتي لها، كان الحب في عائلتي الجديدة هو كلمة المرور، فبالحب تنتهي وتحل الخلافات وتفكك العقد)ص106 وتتعز هذه العلاقة حين يرتبط جلعاد بزهراء الابنة الصغرى في عائلة كاظم فيتزوجها ويستقر معها في كندا البلد البديل الذي تتمسك به زهراء خوفا من رفض الاخرين لحبها لجلعاد الابن اليهودي المنتمي لعائلة كاظم وخديجة تلك العائلة التي اعترفت بيهوديته وانفتحت على علاقة قوامها الحوار والتلاقح مع الهوية الاصلية لجلعاد انطلاقا من رؤية جابر بصعوبة الانسلاخ عن الهويات الماقبل التي يزول بزوالها السقف الذي يجمعنا كلنا. ص 105.
تدور معظم العلاقات بين عائلة كاظم واصدقاء جابر وهم بين مطارد ومسجون وهارب (بعضهم صار لاحقا جزءاً من هذه العائلة بالمصاهرة) حول النضال الثوري وانتمائهم للحزب الشيوعي هذا الانتماء الذي خذلهم ولم يحقق ماكانوا يحلمون به في مطلع الشباب فظلوا قيد التنظيرات الفكرية وتشتت الولاءات وكثرة الغدر والخيانات، لكن هذا لم يمنع جابر من ان يتمسك بهذا الانتماء لكنه طور مفهومه الخاص او رؤيته للشيوعية التي يجب ان تكون “الشيوعية يا اخي عادل في العراق، عشيرة لها شيوخها وبطونها وسناينها وهي أصبحت من عوامل الكف والاعاقة والعراق بحاجة الى حركة تغيير شاملة تنبثق من اعماقه وهوامشه ومهمشيه، حركة يسارية جديدة تمزق قصائد مظفر النواب وتكف عن انتظار الريل وتمجيد الموت وعبادته وتضع صور الشهداء في القبو مع طقوس اللطم وشج الرؤوس، حركة يسارية ترمي بالبندقية الصدئة التي ماقتلت احدا، يسار يدعو للحوار ولايتقاطع مع الماضي المبثوثة فيه نفحات الاشتراكية..بيننا وبين اعدائنا كلمة لاسيف” ص:86 واحسب ان هذه الرؤية تمثل بؤرة سردية مهمة في هذه الرواية بعد كل تلك التفاصيل عن حياة جابر واصدقاء النضال المشبعة بالالم والاسى والفراق، تعكس بنية الجدل التي اثارها النص منذ عتباته الاولى وصولا لهذه الرؤية التي عكست بنية التحول في رؤية البطل جابر بعد سلسلة من المخاضات العسيرة.
بقي ان نقف على تطور الشخصيات النسوية في رواية ابني اليهودي وادوارهن فيها، وهن شخصية خديجة زوجة كاظم وابنتيها زينب وزهراء، لم تتحدث هذه الشخصيات في اغلب فصول الرواية عن نفسها فغالبا تم تقديمها من خلال راوي مشارك هو كاظم الذي تولى سرد اغلب الاحداث عنها فاضفى طابعا اسطوريا على شخصية خديجة زوجته وزينب ابنته. فخديجة هي العقل المدبر في بيت كاظم هي التي طلبت الاقتران به وهي التي نفخت النار في الطفل اليتم لينبعث التاجر الشاطر من رماد اليتم والفاقة ويعم النجاح والمغانم ارجاء بيت كاظم وخديجة، وهي التي دبرت زواجه من سمية وظلت تشرف على كل تفاصيل العائلة حتى توفيت بعجز قلبها عن تحمل صدمة موت ابنها البكر جواد على ايدي نظام الدكتاتور.يقول كاظم عن خديجة “فقد دخلت هكذا خديجة دون مقدمات حياتي، او قل دخلت حياتها، حيث لم اكن افكر بالزواج حينها، وحتى لو فكرت ماكنت اجرؤ لافكر بخديجة، ولكنها هي من قالت (لي اريد اكسب بيك اجر) فظللت ادور في فلكها جرما ضئيلا سعيدا بدفء شمسه العظيمة، وكنت يتيما لم احلم بتلك العائلة والابناء الاصحاء الرائعين فنصبت لي خديجة عرشا أو فخا لاادري” ص 14.
أما زينب فظهرت مثل الالهة عشتار مفعمة بالانوثة تتفجر جمالا ورغبة وحياة لايقدر ان يقاومها رجل فبعد طلاقها من زوجها ضابط الشرطة الذي اكرهتها امها للزواج منه حتى تنسيها حبيبها الجار المسيحي..عادت لبيت ابيها لتعالج احزانها واحزان ابيها بالرقص والفرح، لكنها وقت الشدائد صلبة وقوية تولت ادارة شؤون البيت وتجارة ابيها بعد دخوله السجن ولم شمل العائلة لتجاوز المحنة تزوجت من رجلين مناضلين قتل احدهما في الحرب العراقية الايرانية والاخر شاهين قتل بتدبير من النظام بعد عن عمل شاهين على اقامة مؤتمر للمعارضة العراقية في دمشق. ويترك الراوي لزينب مهمة الروي في فصل معنون باسمها فتتحدث عن تجربتها مخاطبة امها الغائبة: “تلك الموهبة او اللعنة اخذتها عنك رغما عني، لكنني لا أقودهم بل أجعلهم يسيرون امامي، ففي النهاية الهاوية تنتظرهم، قدري هو حبي وولعي بالفراشات الملونة الرائعة لكن سريعة الانطفاء” ص94.
زينب وخديجة تخلقان الرجال او بمعنى اصح تبثان الروح في الرجال للبقاء والاستمرار في الكدح حتى يحين وقت نهاية المشوار، هاتان السيدتان اكملتا صورة عشتار العراقية التي تبعث الجمال في اوصال الموت وتعيد لحمة الحكاية من البداية مرارا وتكرارا منذ الالف السنين. وفي كوبنهاكن موطن الاغتراب الاخير تعاود زينب بحثها عن حبيب حتى تجد سلوان الجار المسيحي الذي احبته في شبابها.
زهراء تنطوي على حبها لجلعاد اليهودي وتتحصن باغترابها خوفا من الوطن الذي سيرفضها لانها تحررت من شروطه وتقاليده البالية. لكنها هي من تقوم مع اخيها الاصغر راكان بدور المدون فتكتب كل تاريخ عائلتها ومحنتهم ودورانهم في ارض الله بين بغداد والمغرب وكوبنهاكن وكندا في دفاتر تعهد بها لاحقا لجلعاد زوجها وموضع ثقتها.
رواية ابني اليهودي استطاعت ان تتجاوز مشكلة الهويات المتنوعة في العراق لتخلق هوية سردية ترتقي بالانا الى المستوى الاعلى كما يقول سعيد يقطين فقد جعل نقطة التحول في حياة الاخر هو لحظة اعتراف عائلة كاظم بهم وبهوياتهم بكل ابعادها الانسانية والحضارية، وهي لحظة اعلاء الذات عبر اتحادها بالاخر لذا كانت اخر فكرة في الرواية هي عودة كاظم الى بغداد مطلع سنة 2003 محاطا بولديه وصهرية اليهودي والمسيحي “وها انا على وشك الدخول الى بغداد فاتحا ومصطحبا معي صهريين، احدهما يهودي والاخر مسيحي، كنا اشبه بعربة الغجر بملابس ملونة واصول مختلطة وبلاغايات محددة وامامنا عالم لايعترف بنا” ص114.
أخيرا هذه الرواية حملت عناصر قوتها في بنائها السردي القائم على السرعة في السردحملت وايقاع الهوية العراقية المتنوعة التي يجمعها تراث اضطهاد السياسة في العراق، وعرى الحضارة التي تتسرب لعروق العراقيين كما تشربت عروق النخيل مياه دجلة والفرات منذ الاف السنين فما زادت الا ارتفاعا.