صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

رواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” لحازم كمال الدين.. صوت موحش في عالم العنف

حين نحاول قراءة نص أدبي، غالبا ما يوجّهنا هذا الأخير إلى الطريق التي يمكن سلكها للتأويل، فالنصوص قد تُقرأ وحدها مكتفية بذاتها، وقد تُرغمك أحيانا على البحث عن بعض المعلومات التاريخية، والجغرافية والسياسية، وتدفعك أحيانا أخرى إلى البحث في بعض جوانب الكاتب، خصوصا، حين نرى إقحامات كثيرة تشير إليه، وهذا تماما ما صادفنا في رواية “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” التي يفاجئنا فيها حازم كمال الدين بوجوده كشخصية واسم في النص وبكل وضوح، هذا بالإضافة إلى وجود إشارات كثيرة عنه، منها مثلا، الحديث عن “مروج جهنم” وهي الرواية السابقة لروايتنا هذه.

 

يوحي العنوان بعبارة “النيكروفيليا” الذي يعني “جماع الأموات” إلى تصوّر لأحداث فيها عنف واغتصاب، وفيها، في المقابل ميت / أموات، وبما أن هذا في حدّ ذاته مربك، ويبعث على أحاسيس غريبة، فإن العنوان يعدنا بأحداث وأمور مربكة وغريبة أخرى، وإلا لما أكد على عبارة “الوقائع المربكة” ولاكتفى بسيدة النيكروفيليا، أو وقائع سيدة النيكروفيليا فقط.

 

ونتعرف في الرواية على “داليا رشدي” التي يتم سجنها، في غرفة في مكان ما، بأمر من “الرئيس”، الذي يعطي تعليماته بتخدير جسدها باستعمال بعض العقاقير، حتى يبدو وكأنه جثة، مع الاحتفاظ بها على قيد الحياة، فتتحوّل البطلة بذلك إلى شخص قادر على السمع والفهم والرؤية، ولكن غير قادرة على الحركة، ثم نكتشف من خلال البطلة، أنها كانت تمارس الدعارة قبل سجنها وتخديرها، بمحض إرادتها، انتقاما لخيانات زوجها.

 

ومن خلال داليا رشدي نتعرف على “صاحبة الصوت المبحوح” الذي تُعرفنا عليها البطلة، بأنها امرأة يصلها صوتها من الغرفة المجاورة للغرفة حيث سُجنت، ونعرف من البطلة، أنها عراقية أيضا مثلها، وأن صاحبة الصوت المبحوح، تلتقي رجالا في غرفتها، وتحدثهم عن أمور مختلفة، نُخمن من أحداثها أن هناك شبها كبيرا بين ما يسرده الصوت المبحوح، وذكريات البطلة داليا رشدي، إلى أن نفاجَأ بحديث عن رواية “مروج جهنم” للكاتب حازم كمال الدين، على أنها رواية لصاحبة الصوت المبحوح، أو “شبعاد البابلي” كما تؤكد داليا رشدي.

 

تتحدث البطلة داليا رشدي، عن التناقضات التي تعيش بها ومعها، بشكل يوحي أنها لا تعرف العيش إلا داخل تلك الحالة، ونرى ذلك واضحا، في محاولتها التخفيف من حدة العذاب الذي عانت منه في المعتقل، فنجد في الرواية اعترافها: “أقول عندما تحولت القطرات التي لا تصلح كلمة جهنم لوصف هولها شتمت (…) لكني توسلت بالله حالا أن يعفو عني، أن يشفع لي، أن يأخذ روحي، أن لا يأخذ روحي، أن ينهي عذابي: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله”، وهو الشيء الذي ساعدها على الخروج من المعتقل، كما لو أن لا وعيها ساعدها على تمثيل دور المؤمنة للتخلص من تهمة الشيوعية والإلحاد، مع أنها تؤكد أنها كانت ومازالت ملحدة، ومع أن هذا التناقض منتشر جدا، إلى درجة أصبح مألوفا ولا يثير استغرابا، إلا أنّه يوحي ويفضح الكثير من التناقضات الأخرى،منها مثلا: تناقض التصرف وردّة الفعل في الخيانة الزوجية، وهو أيضا منتشر في العالم بشكل كبير، إلى درجة أن هناك الكثير من النساء اللواتي يؤمنن به ويدافعن عنه، إذ نرى أن خيانة المرأة تستوجب القتل، بأي معنى، وربما بكل المعاني، أما خيانة الرجل، فيمكن التسامح معها، إلى درجة أننا نجد استغراب الزوج في الرواية من غضب وعصبية الزوجة بسبب خيانته، معبرا عن ذلك بعبارات مثل: “هل جننتِ؟ إنها قحبة لا أكثر ! أنت زوجتي ! إنها ليست امرأة ! إنها واحدة من الأسطول” وكأن ممارسة الجنس مع امرأة عاهرة فعل لا يستدعي الغضب.

كما أن هناك تناقضات في نفس الفئة الفكرية، وقد تمت الإشارة إليها في الرواية: “وجدت في شخصيتي ما يعوض خيباتها من اللاجئات العراقيات، أولئك النسوة استهلكن أطوال الأقمشة السوداء من الأسواق ودأبن على خياطتها كعباءات وحجاب ونقاب، وصرن إسفلت الطريق إلى جوامع تناقضها مقولة النبي محمد “النظافة من الإيمان”.

 

نجد في الرواية، تناقضات أخرى، يعيشها المغترب بشكل خاص، مع أن الإحساس بالاغتراب قد لا يكون في البلد فقط، بل في الفكر والهوية أيضا، أو ربما، هذا ما يزيد المشكلة عمقا، أن تلك التناقضات والاغترابات ستتوالد وتتزايد بفعل الهجرة إلى مجتمع مختلف تماما، حيث ستصبح واضحة، صادمة، شرسة، مما قد يصيب المغترب بحالة من الشعور بعدم انتماء إلى أي فئة… فلا مجتمع بلد الإقامة، ولا الجالية من نفس البلد تشبهه، ولا حتى تلك الفئة (الصديقة) الصغيرة التي تغيرت، وتشوهت بفعل الاغتراب قادر على التعامل معها.

وتظهر هذه الحالات في أبسط الأمور كاللغة مثلا، خصوصا في حالات الغضب والانفعال، فنجد مثلا يوهان دو فريز حين يغضب يخلط بين إنجليزية ركيكة والفلامانية، وداليا رشدي حين حاولت أن تسمع صوتها إلى صاحبة الصوت المبحوح تقول: “حكيت معها باللهجة العراقية؟ باللغة الإنجليزية؟ باللهجة الفلامانية؟ لا أتذكر”.

 

وهذا ما يجعل المغترب، وبطلة الرواية بشكل خاص، تشعر أنها منتمية ولا منتمية إلى كلا البلدين والثقافات، فتعبر: “وجدت نفسي هنا وهناك، رأيتني عائمة في مختلف الفضاءات”.

وهذا ما أدى، ربما، إلى فهم البطلة، أن البيضة ستقع على البيت وتهدمه، في لوحة رينيه ماغريت “صوت الدم” فالبيت هو رمز الأمان والانتماء، ثم إن وجود النهار في الجزء السفلي من اللوحة يوحي بقلبٍ للمألوف، كما كل لوحات ماغريت، وتساؤلها المتكرر: “أيّهما الغمام وأيّهما أوراق الشجر؟” هذا بالإضافة إلى اسم اللوحة، “صوت الدم” الذي قد نجدُه موحيا بشكل من الأشكال إلى أحداث الرواية.

 

لكن، أليست كل هذه التناقضات والتحولات تُشعر الفرد وبشكل خاص، بطلة الرواية، بنوع من التلون والتغير بما يناسب مطالب المقابل؟ أنها غير قادرة حتى على رد الفعل على الفعل، بل أنها مجرد “شيء” يتم تشكيله حسب الرغبة والميول السائدة في المكان والوسط التي توجد فيه.

 

تبدأ الرواية بتعريفنا على البطلة داليا رشدي التي يتم سجنها في غرفة، في مكان ما، وتخدير جسدها بحيث يبدو وكأنه جثة، وأنها تتعرض لذلك بأوامر من “الرئيس” الذي لا نفهم في البداية سوى أنه شخص يدير أماكن للدعارة بأشكال متنوعة وخيالية، ومنها دعارة النيكروفيل، الذي مورس على جسد البطلة، ثم نعرف منها، أنها كانت تمارس الدعارة برغبة منها، قبل أن تسجن في ذلك المكان.

 

فإذا أوّلنا الأمور هنا ثقافيا، فهل يمكن القول إن البطلة سمحت، برغبتها وإرادتها الخاصة، بأن تثير وتتمازج مع الثقافة الأخرى، التي تغلبت عليها في النهاية، بشكل جعلها تحس أنها مجرد جسد ميت، أو ثقافة بالية ميتة، يحاولون إحياءها سواء بموافقتها، أو بشل مقاومتها؟ أليس هذا ما يقوله أحد الأشخاص الذي اغتصبوا جسدها “الميت” حيث همس في أذنها قبل أن يغلق جفنها، وكأنه يريد التأكيد على موتها “أريد أن أعيدك إلى الحياة !” كما أن في عبارته هذه، تعاليا واضحا وغرورا وكأنه قادر على الخلق، سواء فهمناها بمعناها الجنسي، أو بتأويلها الثقافي الذي يفضح نظرة الآخر إلى الثقافة العربية التي تنحدر منها البطلة.

 

في الرواية، سنتعرف على صاحبة الصوت المبحوح، على أنها موجودة في الغرفة المجاورة لغرفة البطلة، لكننا مع التقدم في الرواية، سنخمن، أن البطلة داليا رشدي، هي نفسها صاحبة الصوت المبحوح، من تشابه الأحداث، وأيضا من عبارات البطلة حيث تقول: “تماهيت مع الصوت المبحوح” وتعبر: “لم يكن ذاك الذي يأتي سوى قصة سوف تتناسج على نحو غير متوقع مع عالمي بما يشبه الديجافو” وتفكر: “هل كنتُ أريد أن أسمع قصتي على لسان امرأة الصوت المبحوح؟” و”هل كان ذلك ما قرأت حقا في اللابتوب أم إسقاطا نفسيا؟”.

 

لكننا سنفاجأ بإقحام رواية “مروج جهنم” على لسان صاحبة الصوت المبحوح، والتي سنتعرف على اسم لها وهو “شبعاد البابلي”، مع العلم أن “مروج جهنم” هي الرواية السابقة على رواية الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” للكاتب حازم كمال الدين، وهو يؤكد ذلك بنفسه في الرواية، في الصفحة 253، بقوله: “لم نعثر لشبعاد البابلي على أثر في بلجيكا، بينما أخبرت الضحية داليا رشدي الطبيب النفسي بأن الكاتبة (شبعاد البابلي) تنشر تحت اسم مستعار هو شيماء الصقر، في الانترنت باللغة العربية وجدنا أن شيماء الصقر هو الاسم المستعار لي، أنا حازم كمال الدين مؤلف الرواية !”، كما يخبرنا الكاتب أيضا، أن شخصية الرئيس، الذي سنكتشف أن له خمسة أسماء مستعارة، هي كلها تعود للكاتب حازم كمال الدين.

 

وهذه المعلومات ستجعلنا نطرح سؤالا: إن كان الرئيس في الرواية يقوم بالقوادة على جسد داليا رشدي، التي هي شبعاد، صاحبة مروج جهنم، فهل هذا يعني، أن الكاتب حازم كمال الدين يقوم بالقوادة على نفسه؟ وهذا التساؤل يقودنا إلى فكرة أخرى، فداليا رشدي لم تميز الصوت المبحوح في البداية وظنته لرجل، ثم انتبهت إلى أنه صوت امرأة، وإذا تذكرنا أن الكاتب رجل، ويتحدث باسم امرأة، وهي داليا رشدي، بل إنها هي بطلة “مروج جهنم” أيضا، فهل يمكن لنا التفكير والمقارنة بين الصوت المبحوح وصوت الكاتب؟ أو بمعنى أوضح، فإن الصوت المبحوح، لا هوية جنسية واضحة له، صوت خنثوي، فهل يمكن تأويل ذلك، بأن صوت الكاتب لا هوية ثقافية واضحة له؟.

 

تفاجئنا داليا رشدي، بنعت نفسها بأنها عاهرة: “داليا رشدي ! انت قحبة !” (صفحة 160) ونجدها تصف صاحبة الصوت المبحوح بأنها تمارس الدعارة برواية الأحداث: “أضفت إلى الأثاث في غرفة المومسات أدوات تتفق ودور كاتبة، طاولة تضع عليها اللابتوب والكيبورد والماوس، وطابعة على الأرض، وأوراق طباعة، وأقلام وقواميس، الصورة المركبة من بائعة هوى وكاتبة ساعدتني على دخول ما كانت تسرده على مسامع الرجال، أو ما كانت تكتبه على اللابتوب، قلت لها عند اكتمال الصورة التي رسمتها، هذه صورتي أسقطها عليك، انفخي فيها من روحك وارزقيها نورا من نورك، أكتبي عني أنا في الغرفة المجاورة”.

 

لكن، أليس هذا ما يفعله الكاتب؟ يروي قصصا وحكايات لجلب الانتباه، والاعتراف به “منتجا”، كلنا نفعل ذلك في الواقع، كلنا نكبت ونقمع أمورا فينا، ونتجمل بما يحبه الآخر، كي يتم الاعتراف بنا وبوجودنا، وكلنا، نحب أن نروي “أحزاننا” ويسعدنا وجود من ينصت لها.

 

في آخر الرواية، نرى داليا رشدي، وهي مقعدة ومحطمة الجسد، تحمل مخطوطها، الرواية، لمحاولة بيعها إلى منتج سينمائي محاولة منها لفضح ما تعرضت له من اغتصاب، ومن “إماتة” لجسدها، وروحها أيضا، وهذا شبيه بما فعله الكاتب حازم كمال الدين في روايته، فضح ما تتعرض له ثقافته، التي أصبحت مشوهة و”محطمة” بسبب اقتحام الثقافة الأخرى له، مع فارق بسيط، لكنه مهم، وهو أن السينما، التي لجأت إليها داليا، هو تصوير لنيكروفيل يغتصب جسدا ميتا، أو تمثيل ذلك، والتمثيل نوع من الخداع، والتلاعب بالمشاعر وبالحقائق، وهو جلب الانتباه عن طريق استثارة الرغبات، وهو مختلف عن الكتابة الروائية التي يمكن تأويلها على عدة مستويات كالشعور بالوحدة والتخلي، فحتى الله لا تلامس أنامله أنامل آدم في لوحة مايكل آنجلو، وهي اللقطة التي نرى تذكيرا لها على غلاف الرواية، حيث نشاهد يدا ممدودة بسيجارة، وأخرى مقابلة لها بسبّابة تشير إلى السيجارة، لكن دون أن يتلامسا.

 

وهنا نود طرح سؤالا آخر، ما سبب كل تلك الأسماء المستعارة الموجودة في الرواية؟ فإن كانت شبعاد لجأت إلى تغيير الاسم بسبب الخوف من النظام، والرئيس لجأ إلى ذلك بسبب الخوف من التعرف عليه، ومع ذلك، أليس الاسم المستعار في حد ذاته، هو كذب وتلفيق وتلاعب بالحقائق، وبالتالي بالمشاعر؟ هو بشكل ما من الأشكال عهر أيضا، إذ ما هو العهر في النهاية؟ قد لا يكون هو ممارسة الجنس مقابل مصلحة، سواء كانت مالا أو غيره، فهذا فعل لا كذب فيه، لكن، أليس العهر هو أن نتلاعب بمشاعر الآخر؟ نكذب عليه؟ نغير الحقائق، كل ذلك كي نحصل على ما نريد بطرق غير مباشرة؟ يمكن القول، بالتزوير، وإلا لما خصص الكاتب صفحة للتعريف وشرح “سوق مريدي” الذي يعد أشهر سوق تزوير في بغداد؟ صحيح أنه مختص في الوثائق وما شابه، لكن، أليست الأفكار أكثر فتكا؟ والمشاعر أكثر جرحا وإيلاما؟

ويشير الكاتب أن سوق مريدي غير متابع من قبل المسؤولين، وهذا يعني قبولهم بكل أعمال التزوير، فهل هي دعارة سياسية أيضا؟ نرى في الرواية عدة أمور تشير إلى ذلك، منها مثلا: عبارات مثل “آية الله” أو أحداثا كالخال الذي اغتصب البطلة، أو الجد في رواية “صاحبة الصوت المبحوح”، والرئيس الذي “أمات” الجسد وجعله غير قادر على أبسط أنواع الفعل، واعتبار جسد داليا رشدي كبقرة حلوب ولذلك يتم الحفاظ عليها كجثة على قيد الحياة.

أو حتى تحوّل كبير المستشارين إلى جلاد يمنع من الاقتراب إلى النافذة، التي يمكن تأويلها المنع من التطلع إلى العالم الخارجي، والحلم بالذهاب إليه، واستعداده للقتل لو أمِر، فلا يمكن عدم التفكير في أمور العراق السياسية الحالية، وكيف أن الرؤساء ومن كان يُفترض فيهم رعاية البلد والحفاظ عليه، وتقديم المشورة والعون لتقدمه، أماتوه ليربحوا منه أمولا طائلة، وذلك بإرضاء نزوات “نيكروفيلية” لسياسيات أخرى،،، أو هكذا هي السياسة؟.

 

وأخيرا، هل عهر السياسة هو السبب في ما نراه اجتماعيا وثقافيا؟ أم أن السياسة هي نتاج تضافر كل تلك الأمور؟ ألهذا يختم الكاتب روايته بعنوان “أي لغة تريدون” التي تذكرنا بالشاعر مظفر النواب، حيث جاء في الصفحة الأخيرة من الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا: عابوا على الشاعر مظفر النواب استخدام اللغة البذيئة فردّ: “لا يعقل أن ألجأ إلى معجمية الأخلاق وأنا أعيش سم المواخير حتى التخمة”.!

 

إقرأ أيضا