صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

رواية زارع الريحان لهاجر القحطاني: ألف شرنقة حول المرأة ورجال يسيطرون على المشهد

“في البستنة نرعى النباتات حتى تزهر وتثمر، والناس كذلك نباتات أُنبتوا في الأرض نباتا . لكل نبات أوانه وثمره، ولكل إنسان بالضرورة أوانه وثمره . وحين يعجز الإنسان عن الإثمار أو حين يفوت أوان اثماره يمرض ويموت”.

كزارع الريحان سعد بذرت هاجر القحطاني نبتة، وتسلحت بصبر الفلاح، تغذيها بألوان من المعرفة والثقافة التي زودتها بها تنقلاتها الكثيرة وأسفارها التي جابت بها شرق الأرض وغربها، تعمقها بالثقافة الغربية، وجذورها التي تغذت بنهري دجلة والفرات، فأخذت من اتساع وجمال هذا وعمق وحكمة ذاك لتتحلى بمزيج يحسبه القارئ في بداية الرواية نوعا من السرد والوصف الذي قد يليق بضواحي وقرى أوروبا، ولايمت الصلة لتجاعيد يد مزجت بطينة التربة السوداء وعجنت بقسوة الأيام، لم تغفل التفاصيل الدقيقة، الغرف والجدران، الأثاث، اللوحات المعلقة بل حتى نوع الموسيقى، الكتب والمكتبة، الألوان والأشجار وبستان النخيل، حتى تخاله ترفا يشدك للنهاية باحثا عن أثره الخفي في سير التجربة .

تأخذك لغتها القوية، تطوع العلوم، في تجربة مدروسة تضع فيها الإنسان بأصيص محكم المقاييس مثله مثل نبتات سعد، ترعاها بتأن محاولة بكل ماتملك من أدوات اللغة، العلوم الإنسانية، نظريات علوم النفس والاجتماع، لتراقب المشهد بعيني صفاء كيف وماذا ستكون النتيجة ؟

هل سينجح د. حمزة وقد حملتّه كل تجاربها الغنية في الغربة، العربي الذي اضطر تحت حكم مستبد أن يحمل طموحاته وأحلامه ليبحث عن أرض بعيدة تستوعبه فأزهر وتبرعم فعاد لأرض كانت له الأم يحاول حرثها وبث الحياة من جديد، ليصطدم بصحراء مترامية لايعرف دروبها، وقوانينها (( العالم مكان مخيف والحياة شأن خطر، كيف يحافظ هذا الرجل على بروده كأنه يتجول في كتب العلوم ؟ )).

وبصبر ابن الأهوار تأنت لتتيح لأبطالها مساحة تعبر عن حقيقة هذا الكائن شديد التعقيد، الجبروت في قمة ضعفه، الحالم في أعماق يأسه، وكأن بيدها ريشة رسام يخط على جدران العراق ماخلفته سنوات خنق الأنفاس، والنوم بكوابيس مرعبة، وويلات الحروب، حربا بعد حرب، لا أتوقع لقلم أحد مهما تعاظمت مقدرته، قادرا على توصيف ماتخلفه الحروب، إلا من خاض غمارها، وعاش آثارها 

تلك الآثار التي لاتراها على الوجوه ولا تتضح إلا تحت مبضع جراح ماهر .

نجحت في رسم صورة للمشهد الذي يحمل الكثير من صراعات (( الشعور بالاستحقاق في غير محله ))، بين العراقي المغترب والذي جاء محملا بآلام الاغتراب كما جاء محملا بثقافات العصر وشعوره بالاستحقاق بأن ياخذ مكانه المتميز، و الذي لم يفارق أرضه وعجن بكل ويلاتها، ورضع الخوف والقلق، بين منابر الموت التي تعددت أسبابها، حتى غدت تتساوى بنظره بمدن الملاهي، لا ألعاب تملأ مخيلتهم سوى الرشاش والقتل والمفخخات، عبأتهم الحروب والحصار والمجاعة بصناديق جاهزة لمغادرة الحياة، يحمل عبء التاريخ المتشرذم باستحقاق الحب والحياة .

بمقدار ماتحتاجه النبتة حتى تورق وتؤتي ثمارها أحاطتنا بصور سريعة لحالات نفسية متواجدة في الساحة والشارع والسوق مابين الذي رأى خطيبته مقطعة بحادث انفجار، والذي عاد من الحرب منسحبا، او الخوف الذي يسكن الرسام عباس فأحاله لقنبلة موقوته لتهتز قوائم هذا الحلم، وكأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، الحادث الذي خرج عن المقاييس ليسحب معه حجرا تتهاوى بعده كل الجدران، الأناث كن الفئة الأقل، ضحى الهائجة المتمردة (( حالم من يتوهم أننا سنصبح مثل باقي العالم )) وانزواء أزل الطفلة التي يملؤها ‘ذعر طفل أفلت يد أمه ‘… صور لشخصيات قريبة منا .. تتركها غير واضحة المعالم، هل لأن التجربة أجهضت ولم تكتمل أم أنها فتحت المجال لأن نبحر نحن كما أبحرت هي في 

صفاء المراقب لرصد التجربة الذي خلته في بداية الرواية محايدا ليس له دور سوى أنه الراوي، فإذا بها تفاجئنا بأنه كان هو التجربة، هو العراق، هو الإنسان بكل تعقيداته والتي من العسير جدا فك رموزها .

“هي” بقيت عصية على سبر أغوارها، كنت أتمنى أن تأخذني بأعماقها، كما أخذتني بدرابين صفاء ودهاليز نفسه والتي كانت غائبة عنه، فإذا بها تتهاوى أمام عينيه، منذ ولد وحيث وضعته أقداره بين أسوار هذه التجربة . 

إما ريحان كانت علامة استفهام، دخولها التجربة، ظروفها، هل كان تواجدها مخططا له كأحد ضوابط التجربة أم ماذا ؟ ماهي الخريطة التي أخذتها نحو حب الدكتور ومن ثم حامد ؟!، هل كانت الكاتبة مكبلة بقيود التقاليد والأعراف والتشريعات التي خلقت حول المرأة ألف شرنقة يصعب التسلل بين خيوطها ؟ هل كانت تلك القيود وراء انحياز التجربة نحو الذكور حيث سيطروا بعددهم وحضورهم على مشهد الرواية، رغم تأثيرها الساطع في تحريك دفة الأحداث .

حامد الشخصية التي تمسك كل الخيوط لترسم صورة للمنتصر دوما، تكرهه كثيرا ،تتعاطف معه أحيانا، وقد تحترم رغبته في تحقيق حلم ابن عمه، يبقى طيلة الرواية رجلا عالي الصوت واحتفاليا، لتتمتم في أعماقك (الدنيا حظوظ )، الشخصية المنفرة بتملقها أحيانا وبدهائها أخرى، ولكن لا انفكاك عنها فبيدها المفتاح السحري الذي يطوع لك العسير لتحقق أهدافك، لا شهادات علمية رفيعة تشفع لك، ولا نظريات نفسية، ولا سنوات من الخبرة والبحث تخرجك من المأزق سوى أن تسلم الراية لصاحبها فالمكي أعرف بشعابها، كلما اقتربنا من النهاية، ومع اتضاح ملامح المشهد الذي خلفته الحروب والطغيان وما ينتظره من إرهاب وخراب، كان من المنطقي أن حامد من يستلم دفة القيادة لتتحول من تجربة علمية إلى مشروع تجاري يحاول إنقاذه ،لتفاجئك بمصيبة أكبر تنتظرهم وكأنهم “كانت ناقصتهم”.

 المشهد لم ينته، لاتسدلوا الستار . والغلبة لمن ينتهز الفرص في واقع لايعرف العدالة .

“في الولادة الجديدة خبرت أصعب اللحظات، وأعمقها وأقساها وأعقدها، لا أمان ولا راحة ولا ضمان، لكنها الولادة، الشهوة العارمة للحياة”.

منى الصالح: كاتبة سعودية

إقرأ أيضا