روزخونيات

يتم تداول التاريخ شفاهيا مع قصقصته حسب الوقت والمزاج والحاجة التعليلية، واحيانا تغيير اجزاء منه، وهكذا تضيع الى جانب العلمية رغبة المستمع بالتساؤل وحب الاطلاع فما يصله عبر مكبرات الصوت وجبة جاهزة من التلقين والعاطفة؛ هذا بالتحديد ما يحصل في متن المحاضرات التي توصف ظلما بالعلمية والتي يزدهر بها وبخطبائها العراق منذ تم منحنا حرية القول والفعل عام 2003 فأضعنا الاثنين.

هذه المحاضرات تحتفي بالمظلومية والحزن،  وهما عنصران اساسيان في تكوينها. فلن تجد محاضرات في ايام مثل الغدير أو ولادات الائمة، إلا ما ندر. وطريقة توصيل الحزن تعتمد على الصوت الجميل او المؤثر والكاريزما، قبل أن تعتمد على ثقافة المحاضر وامانته العلمية في الاعم الغالب.

المفارقة الاكثر اثارة للاستغراب هي؛ القدرة الهائلة للمحاضرين على تناول اخطر المسائل الفقهية والعقائدية والتاريخية والتي حيّرت علماء الدين الاسلامي عبر مئات السنين بكل سهولة، وبلغة عامية، واحيانا بالسخرية من الرأي المخالف. وفي الغالب يتم الحديث عن أمر مهم لمليار مسلم او اكثر باسلوب يجتزئ المعلومة ويقدمها عبر ايقاع كلامي متوارث لتصل الى متلق هو في الغالب لم يسمع غير وجهة نظر واحدة في حياته في كل شيء. احيانا تجد الخطيب يتحدث عن طبيعة النظام الاجتماعي في الجزيرة العربية قبل الاسلام، ويُتم كلامه بخمس دقائق لا غير فتتساءل: لماذا كتب د.جواد علي \”المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام\” ؟! ومرة تجد غيره من الخطباء يتحدث عن توبة بشر الحافي على يد الكاظم \”ع\” رغم أن هذه الرواية ليس لها سند. وقريبا من هذه الفكرة تجد زيادات من جمل وشروح لحديث الامام الحسين \”ع\” مع اخته زينب العقيلة لم يوردها ابي مخنف وليست من المعقول حتى.

لا ادري لماذا لا يتم اعتبار الشفاهية جزءا من الخطاب الرسمي المعتمد لقائله كما هو الحال في السياسة. هل السياسة اهم من الدين؟!. التأثير الذي يأتي به هؤلاء المحاضرون اكبر من الكتاب المملوء بالهوامش والمصادر والتعليقات واذا ما قاموا بتصعيد في لهجتهم فالحرب الاهلية ممكنة وقريبة الى حد لا يصدق.

احيانا اجد ان الضخ الديني عبر الشارع والفضائيات والمحطات الاذاعية والانترنت – من وجهة نظر من يقف خلفه- ليس مهما بنوعيته بل بكميته. والحقيقة ان التكرار والتسليط المستمر على رأس المتلقي خيار ناجح لغسل مخه وجعله مجذوبا وتطويعه امام ماكنة لا تتوقف عن قتل الاسئلة وحب المعرفة.

في زمن ما، كانت الناس تتداول الكتاب الديني رغم انه يؤدي بها الى الاعدام، وتفاضل بين طروحات الكتب وصولا الى قناعات جزئية او كلية اسست لمعرفة بسيطة وجميلة في وقتها، أما اليوم فالكتاب الديني شاحب الوجود في بيوت المتدينين. أولا لانه يطرح حقيقة يجب استكمالها في كتاب آخر مما يضع القارئ امام سلسلة من المطالعات، وثانيا بسبب الضخ اللانهائي للمقولات الدينية العاطفية التي لا تمنح المتلقي لها فرصة التفكير بها او بغيرها.

هل تساءل احد يوما السؤال التالي: هؤلاء -الخطباء الذين يبكون على السيدة زينب ويتأوهون لفجيعتها المريرة لدى المتدين وغير المتدين- هل ارسلوا ابناءهم للقتال في دمشق الى جوار قبرها كما يفعل أباء من نرى صورهم يوميا في الساحات العامة؟.

إقرأ أيضا