لم يستمر في الكرملين أي رئيس روسي مثل بوتين، إذا استثنينا السوفييتي بريجينيف. وأهم ما يذكر لبوتين عاطفته الرومنسية لأمجاد موسكو، ومحاولة إحيائها بعدة طرق أهمها.
1- الماكينزية السياسية: وهو أسلوب يجمع بين إطلاق الحريات للمجتمع المدني وتشديد رقابة الدستور. إذا اتفقنا أن الدستور يعني قراءة الكرملين، وليس مؤسسة القضاء الروسي فقط.
2- نهاية الإيديولوجيا والاحتكام للدولة وليس الحزب: وترك ذلك أثرا سلبيا على الجانب الثقافي في البلاد. وربما كانت الثقافة هي الضحية الوحيدة في هذا المجال. فبعد أن خسرنا رموز روايات القرن التاسع عشر مثل دستويفسكي وتولستوي وتورغنيف (مثلث الثقافة السلوفينية الخالدة) خسرنا أيضا رموز أدب النصف الثاني من القرن العشرين مثل إيفان بونين وفالنتاين راسبوتين وغوركي (مثلث الواقعية السوداء أو الواقعية الحديثة).
3- أخيرا استعادة الشرق الأوسط من أيدي الغرب وأمريكا. وهو موضوع كتاب “روسيا والربيع العربي” لأليكسي مالاشينكو الصادر في موسكو عن مركز كارنيغي للبحوث (1). يتابع الكتاب جهود بوتين لملء الفراغ الذي تسبب به ضعف إدارة غورباتشوف، وتخبط من جاء بعده. ويذكر منذ البداية أن الخطط لم تحقق أهدافها الاستراتيجية،وزاد الربيع العربي من صعوبة القراءة الصحيحة لتطور الأحداث. علاوة على أنه وضع روسيا بمواجهة ساخنة مع الغرب في ظل انتشار غير مسبوق للاتجاهات الإسلامية الراديكالية ص3. وإن لم يجد الغرب صعوبة تذكر ببناء الجسور مع المقاتلين الإسلاميين، لأنهم كانوا أصلا تحت رعاية الديمقراطية الغربية، توجب على الروس اكتشاف لغة جديدة تترجم المتغيرات، وبشرط أن تكون مفرداتها من خارج القاموس المألوف (تحديدا لغة الخطاب القوماني والاشتراكية العالمة). وكما يقول مالاشينكو: وجد الروس أنفسهم بمواجهة نخبة جددت أهدافها، وهو ما فرض عليهم الاستغناء عن الأساليب السوفييتية القديمة، وبناء لغة خطاب أو تكتيك يمكن للجيل الصاعد أن يفهمه.
وقد مرت علاقات روسيا مع الشرق الأوسط “العربي” بأربع مراحل:
1- ما قبل الحقبة السوفييتية. ولم يكن للروس خلالها أي أطماع بالعرب، إذا استثنينا الكنيسة الأرثوذوكسية في فلسطين. وانصب اهتمامهم على مضائق المتوسط وبلاد فارس والقوقاز وآسيا الوسطى والصين، وتركوا الشرق الأوسط للأتراك والأوربيين.
2- بعد ثورة 1917، ولم يبدلوا سياستهم السابقة، لأن البلاشفة لاحظوا عدم اهتمام العرب بالماركسية ص4. ولم يكن للنوادي والجمعيات التي ترعاها موسكو أي تأثير يذكر. ويقول مالاشينكو عن ذلك: كانت جمعيات عقيمة لم تحبل بالمخاض الثوري ص4. والأسوأ أن حركات التحرر العربية لم تألف لغة البلاشفة، وصنعت لنفسها إيديولوجيا هجينة استمدتها من مصدرين: خيبات واقعها وأمجاد تاريخها الثقافي والحضاري.
3- بعد انتصار السوفييت عام 1945. وحينها وظفوا العرب في بناء ستارهم الحديدي للحد من توسع الغرب ص4. واستطاعوا أن يكسبوا إلى جانبهم مصر والعراق والجزائر وليبيا. غير أن النتيجة كانت معقدة أو تعاني من عدة تناقضات. فقد تقبلت مصر واليمن وسوريا وليبيا الأطروحة الماركسية بصيغ مخففة. ويذكر مالاشينكو أن هذه الدول قبلت النموذج الاقتصادي والعسكري السوفييتي، لكن أبدت شكوكها من الخطاب السياسي (وزجت اعدادا لا تحصى من الشيوعيين في السجون). ويلاحظ على مالاشينكو في هذا الصدد عدم التمييز بين الأنظمة الوطنية والقومية، ولا يفرزها إلى اشتراكيات متشددة، كما هو حال اليمن الجنوبي قبل التوحيد، واشتراكيات هجينة وطنت الدين والحداثة والعسكرتاريا في إطار واحد (وهو نموذج العراق على الأقل في آخر جمهوريتين له قبل الغزو والسقوط). ومهما يكن الأمر (والكلام لمالاشينكو) نجحت موسكو، بالنتيجة، في تسويق “تحالف غير رأسمالي” خاض معها حربها الباردة داخل منظومة “العالم الثالث” ص5. وهنا لا بد من التذكير بدور إسرائيل. فقد ساعدت موسكو على تعميق التعاون العسكري مع العرب، وتجريب أسلحتها في ثلاث مواجهات أخذت شكل انفجار دولي، وهي حرب 1956 ثم 1967 وأخيرا حرب 1973، آخر حروب عرب موسكو وبداية دخولهم تحت مظلة أمريكا (والإشارة لمصر والسودان ثم العراق منذ حربه مع إيران وحتى غزو الكويت – حوالي 12 عاما متواصلة غازل فيها نظام البعث العراقي البيت الأبيض). ولكن هذا التعاون العسكري لم يتلازم مع فوائد اقتصادية. وكان حلفاء موسكو من فقراء العرب، وكانت تدللهم بالمعونات والتجهيزات. ومن أهم الأمثلة سد أسوان في مصر ومعامل حمادي لصهر الحديد في الجزائر ص5. حتى بلغت ديون العواصم العربية المليارات.
4- بعد إعادة روسيا لعلاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب عام 1991. وأذن ذلك بنزوح العرب سياسيا من المركز إلى المحيط. بتعبير آخر تسارع ابتعادهم عن مركز صناعة القرار الروسي والزحف نحو الغرب. وحسب استطلاعات الرأي انخفض التأييد لروسيا بين طلاب معهد موسكو للبحوث من 91% إلى 51% ص5.
ولذلك توجب على بوتين منذ عام 2000 أن يعيد ترميم ما خربته البيروسترويكا. وكان يحدوه لذلك، بلغة مالاشينكو، أمران: نوستالجيا مرضية لأمجاد السوفييت، والمصالح الوطنية لروسيا ص6. ولكنه وجد نفسه أمام خيارات صعبة إن لم تكن مستحيلة. ويقارن مالاشينكو ما حصل في روسيا مع ما حصل في بريطانيا بعد استقلال المستعمرات، فقد تخلت عن لغة الاستعلاء والوصاية، وخففت من لهجتها السياسية، ولجأت لبنك العواطف. وبذلك ضمنت لنفسها مكانا محترما يناسب المستجدات. ولكن يفوته أن يذكر سيطرة الثقافة الامريكية على الشباب، وتصدع العقل الأنغلوساكسوني، وتوزعه على ثلاث محاور: الاتحاديين في شمال إيرلندا، وأنصار البيئة والثقافة الخضراء في إسكوتلاندا، وسياسة الموانئ في ويلز، وهي تشبه لحد كبير غدانسك خلال أيام نقابة التضامن وحتى وأد حلف وارسو.
وتوازى ذلك مع تراجع الثقافة الروسوفونية من كل شرق أوروبا واللجوء إلى قلعتها الأخيرة، وهي الفيدرالية الروسية. وقد تسبب ذلك للروس بآلام مبرحة ووضعهم أمام احتمال يدعوهم لقلب التاريخ، أو عودة موسكو للوقوف على قدميها عوضا عن رأسها. غير أن المشكلة برأي مالاشينكو هي عدم فهم الروس لحقيقة العلاقة بين الماضي السوفييتي والحاضر الفيدرالي الوطني. أو بلغة أوضح عدم تقبل فكرة موت “السوفييتزم” ص6. فالعقل السوفييتي اتبع، في السابق، سياسة الضم والسيطرة (بلغة قانونية استعمار الإنسان – واحتلال الأرض). وحاليا يتحكم به نظام يتحرك باتجاهين: فيدرالي (أو شجرة لعائلة واحدة). وتعاوني (شبكة اتفاقيات ترعاها علاقات تعاون فنية وعسكرية) ص6. وهي ليست حالة هضم (بطريقة السوفييت) ولكنها ظرف سوق أو حالة تنافس (بطريقة الرأسمالية الغربية تماما) ص6. ولم تعد العلاقات تتضمن بناء مؤسسات إنتاج عملاقة، كما كان الحال في السابق، ولكن إغراق السوق بالضروريات كالغاز والبترول والسلاح، ومساعدة الحكومات الضعيفة بجيش خاص من المتطوعين. وقد يتطور ذلك لإنشاء قواعد متكاملة (وهي أعلى درجة من الاستعمار الناعم).
ولعب مسلمو القوقاز وحوض الفولغا دورا في اتباع بوتين سياسة ذات أوجه، فقد تعاون مع إخوان مصر، لكنه حارب إخوان سوريا ص7. ويقف وراء استمالة المصريين تعاطفهم مع حماس. وهي منظمة معادية للغرب، وتتحكم بمواقع استراتيجية في غزة.
وللجماعات الإسلامية عدة منصات داخل روسيا، وبالأخص شمال القوقاز (يسميه مالاشينكو بمعدة روسيا الثانية، ويشمل إنغوشيا والشيشان وداغستان). وسبق ان تشكلت فيها إمارة نوخوشيشو الإسلامية. ومن أبرز قياداتها عبد الحكيم الشيشاني. لكنه لم يعمر طويلا، وانتقل إلى إلى تركيا عام 2009 وأقام فيها بصفة “لاجئ طوعي”. ثم تابع إلى سوريا بعد أحداث عام 2011 واستأنف أعماله العسكرية ضد الروس. أما المعارضة المدنية فتتوزع بين تيارين: وهابيين وشيوخ طريقة أو متصوفة. وغاليا ما تعقد تحالفات زاحفة (بمعنى مؤقتة وتتبدل حسب المصالح)، مع السياسيين المستائين من محاربة الفساد. ولضبط إيقاعهم حاولت روسيا اتباع سياسة النأي بالنفس، ومراقبة الخلافات بين كل الفرقاء، ثم التوسط لحلها. ويقول مالاشينكو إن بوتين لعب كثيرا بهذه الورقة – سماها القديروفية (2). ولكن عندي تحفظات على هذه القراءة. أولا بسبب عمق وجدية الخلافات بين الطرفين. وثانيا لأن مدفيديف كان هو الرئيس. والحقيقة أن بوتين أقرب لخروتشوف من يلتسين. حتى أنه لم يهتم بالجانب الروحي من الإسلام ولكن بجانبه الاجتماعي. وميز بين مسلم تقليدي (أو محافظ تحكمه طقوس وعادات) وآخر راديكالي.
ولا شك أن للتعاون مع حماس محاسنه وسيئاته. فهو يساعد على تهدئة الرأي العام، ولكنه لا يحدد ولاءه. فحماس من السنة، مثل مسلمي روسيا، ويدينون لنموذج مكة والمدينة، وليس للشيعة حلفاء موسكو. يضاف لذلك الخلفيات الروحية التي تقرب المنظمة من تركيا. وهي قوة إخوانية ناشئة وتداعبها، مثل موسكو، أطماع بالتوسع واستعادة ما ضاع من أجدادهم العثمانيين. وهذا التحدي لا يستهان به ص8. ولا سيما ان حدود تركيا كانت مفتوحة لهم بعد الفصل الدامي في الشيشان كما هي مفتوحة منذ سنوات أمام السوريين وعلى رأسهم الجولاني وجماعته. فقد حاولت تركيا طويلا أن تقدم صورة مثالية عن فضائل الشرق وحكمة الغرب ص8. وهو ما يرشحها لعلاقات تنافسية مع موسكو. وإذا تمكنت تركيا من إقامة قواعد عسكرية في قطر وليبيا، فقد اقتصر دور روسيا على التوسط بين إيران والغرب، ثم بين العرب وإسرائيل، وأخيرا بين صدام وأمريكا قبل الغزو. وحتى هذه الوساطات لم يعد لها دور بعد معاهدة إبراهام واندلاع الحرب مع أوكرانيا. وتذكر الإحصائيات أن الرأي العام المؤيد لموسكو في مصر تراجع من 50% في عام 2007 إلى 30% في عام 2012 ص8. ويلمح مالاشينكو لدور الربيع العربي. ويلاحظ أن الثورات الشبابية غيرت وجه الشمال الإفريقي بطرق مدنية وسلمية، في حين شوهت وجه الجناح الآسيوي. بتعبير آخر أينما كان للبلد تاريخ سوفييتي تعرضت فيه مؤسسة الدولة للتخريب. ويرى أن الثورات العربية هي صدى “للثورات الملونة” التي وضعت حدا للقرن السوفييتي ص9.
ثم يسأل مالاشينكو نفسه: من صمم وأدار هذه الثورات؟. وتفهم من ذلك أنه يتهم واشنطن، ويدينها بافتعال حرب توسعية تستهدف المناطق الدافئة بعد أن حسمت الموضوع في أوروبا ص9. ولذلك اضطرت الدولة الروسية للاحتفاظ بلغة معتدلة تجاه الأحداث، وأعلنت أنها تعبير مشروع عن ما يلاقيه الإسلاميون من ضغط في بلادهم ص9. ورغم هذه اللهجة الدبلوماسية لم تجن غير القليل من الثمار، واقتصرت المكاسب على الاجتماعات وإصدار البيانات ص9. وبلغة الأرقام مالت كفة الميزان التجاري لأمريكا. فصادرات موسكو إلى مصر (في عام 2019) لم تتجاوز 6 مليار دولار، بينما ارتفعت مع أمريكا من 7.7 إلى 8 مليار دولار. ولا يفوتني ملاحظة أن الأرقام ليس بالروبل. وهو ما تحاول موسكو تلافيه وتصحيحه، وتعلق حاليا آمالها على البريك (رغم تفاوت مستوى الحياة في أعضاء المنظومة. فحتى الأعمى يرى الفرق بين أسواق الهند وجنوب إفريقيا وأسواق منطقة اليورو مثل سويسرا وفرنسا).
ثم يتابع مالاشينكو دور الكرملين في مناطق الثورات العربية. ويعتقد أنه يدعو للأسف. فقد كانت له الكلمة الأولى في نظام القذافي، في حين تطبق الجمهورية الجديدة عليه شتى أنواع الضغط والحصار. وأول ضحية إدانة المحكمة العسكرية للروسي ألكسندر شادروف بالتخابر مع نظام القذافي ص10. وأعقب ذلك إلغاء صفقة تجارية تبلغ قيمتها 10 مليارات بحجة انها خاصة بالقذافي ونظامه ص11. وانتهى هذا الفصل بتوقف عمل شركتين روسيتين عملاقتين هما تاتنيفت وغازبروم ص11. وانتهى هذا الفصل بمقال مؤثر للمحلل الروسي أليكسي كوكين، يعلن فيه عودة الاستعمار الغربي إلى الشرق الأوسط. وكان يشير لسيطرة شركة إيطالية هي ENI على سوق النفط الليبي ص12.
وأمام هذه التطورات سارع بوتين عام 2015 لمنع سقوط النظام السوري والاحتفاظ بمربع أخير على المياه الدافئة في المتوسط ص12. ولكن سبق تأخير العمل العسكري عدة رهانات ثبت عدم جدواها:
أولا محاولة روسيا للتوسط بين دمشق والدول العربية المتململة من نفوذ سوريا في المنطقة وبالأخص لبنان.
ثانيا قناعة روسيا بكفاية الوجود العسكري لحزب الله والإيرانيين.
ثم ينقل مالاشينكو عن كميل حبيب الأستاذ في الجامعة اللبنانية ببيروت أن الصراع على سوريا هو في أحد وجوهه صراع من أجل أوراسيا ص14. وتبعه الداعية المصري يوسف القرضاوي وأعلن أن روسيا هي العدو رقم 1 للمسلمين، والجهاد ضدهم فرض كفاية. وكلام القرضاوي لا يعبر يمثل شخصه، ولكن ينقل صوت الصحوة الإسلامية التي تعهدت بأعباء وتكاليف الثورات الشعبية، وحصار الحكومات، واستئناس أو ترويض اليسار العربي الممزق بين عقلية محافظة وغير تاريخية وبين جماعات تبحث عن منشطات ومنكهات في الغرب الرأسمالي. ومن المؤكد أن بقايا اليسار يضع آخر أمل له في الغرب، غير أنه يجد نفسه في النهاية أمام جدارين: الإسلام السياسي والحركي، ومشاكل التمويل (غالبا نظام الجباية). ومهما حاول اليسار الوطني استيعاب الشارع (والتستر برواد التنوير والنهضة)، لن يتمكن من الاندماج مع بعض الثوابت الروحية. وإذا كانت المعركة بين الأحزاب والتيارات تركز على تجديد العقل الديني ونقد العقل اليساري فإن المعركة في الداخل تركز على هدم “مؤسسة” الدولة وإقامة “مجتمع” دولة على أنقاضها. ولا أحد يمكنه أن يضمن عدم تكرار سيناريو دولة الخلافة، والوضع المزري الذي فرضته دعلى الجميع، بمرجعية تعود بنا في أحسن الأحوال إلى القرن الثالث عشر (تاريخ نشوء الدولة العثمانية). وهنا يصح ما ذكره نيتشة في “أفول الأصنام” من أن التاريخ يجبرنا غالبا على التفكير بالماضي، ويعمينا عن ضرورات تخيل المستقبل.
وفي ضوء هذه الظروف أصبحنا أمام لوحة سياسية سريالية. وكان خطاب موسكو للتعامل معها محيرا جدا. فقد دعا الكرملين إلى مؤتمر دولي عام 2012، ومن بين المدعوين العدو اللدود القرضاوي. وتبعه مؤتمر مماثل في داغستان، شارك فيه علي محي الدين القراداغي ص18. ومعروف عنه أنه ينظر لمسلمي روسيا على أنهم جزء عضوي من الإسلام “العربي” ص18. ولا يخفى على أحد خلفيات هذا الكلام. فالإسلام العربي لا ينظر بعين الرضا لتوسع الإسلام الفارسي، أقوى حليف للروس في مواجهته مع الغرب. وإذا كانت الديمقراطيات الغربية تعاني من مشاكل مع الأقليات فهي تبذل جهدها لصهر الجميع في هوية وطنية داخل نظام رأسمالي تقوده شركات متعدية للحدود والقوميات. بينما يعاني الإسلاميون من أخطار التشتت بين عدة طوائف، ومن التفريق بين التشيع العربي والصفوي. وكلاهما يتناحر على طوائف صغيرة وجدت نفسها في المحرقة، ومن بينها الدروز الإسماعيليون والعلويون.
ويؤكد مالاشينكو أن المخاض الإسلامي واحد. وعلى الروس أن يحسبوا حسابه. ويذكرنا بأحداث القوقاز، والفولغا، وجمهورية تاتارستان. ففي عام 2012 خرج مسلمو قازان للتظاهر في حديقة النصر، وأنزلوا العلم الروسي، واستبدلوه براية حزب التحرير الإسلامي. وينوه بوجود خلايا إسلامية نشيطة في نابيرجني شيلني ونيجني كاميسك ص18. وفي جمهورية باشكوتستان المجاورة وجنوب الأورال وصربيا. وانتشار ما يعرف باسم “الذئاب الرمادية” ص18.
ويضاف لذلك دخول المسلمين من حدود روسيا الجنوبية هربا من أوضاعهم الاقتصادية المتفاقمة في بلادهم بهجرات تشبه زحفا آسيويا منظما من وسط آسيا. وتذكر التقديرات أن الأوزبك على رأس القائمة، وقد بلغ تعدادهم 700 ألف – 2 مليون. يليهم الطاجيك ويتراوحون بين 800 أىف و2 مليون. ثم القرغيز ويبلغ تعدادهم بين 400 و800 ألف. ويوجد في هذا الرقم درجة كبيرة من التسامح، وهو مؤشر على صعوبة تقييد حركة النازحين وملاحظة طبيعة حياتهم. مع احتمال لتغلغل الجهاديين (وتعرف هذه الجماعية باسم “الانغماسيون”). فمن المؤكد أن أكثر من نصف المهاجرين غير معروفين ودون قيود ولا سجلات. بتعبير آخر هم أشخاص فضائيون، موجودون وغير موجودين. وتتخللهم، كما يقول مالاشينكو، خلايا تابعة لحزب التحرير، وهي مكونة من 3-5 أعضاء في كل خلية، وينحصر دورهم في التغرير بالروسي المسلم ص19.
ثم ينقل عن دراسة لأليكسي ستاروستين خطر إضافي، وهو جماعات راديكالية تعمل سرا في المنطقة الفيدرالية في الأورال، وتدعو لإقامة نظام الخلافة، وتوزع منشورات مطبوعة لتشرح أهدافها.
ويستدرك مالاشينكو أن تساهل السلطات الروسية معهم، قابله تشدد وحزم في موطنهم، مع حرمانهم من تأييد الربيع العربي أو الإدلاء بأي رأي حوله. ويعتقد جيمس دورسي الباحث في كلية الاقتصاد في سنغافورة أن دكتاتوريات تركمانستان وأوزبكستان هي الأسوأ في العالم، وقد تتأثر بهذه المستجدات، وسيلقى الإسلاميون فيهم التشجيع والدعم من النموذج التركي. ونحن بحاجة لوقت لنعرف نتيجة التناحر الصامت بين المعتدلين والراديكاليين ص21. وسيكون من الحماقة عدم التفكير جديا بانعكاس هذه التطورات على الدولة الروسية. ويزيد من هذه المخاوف وجود العديد من التتار والبشكير والقوقاز الروس في سوريا. فقد تدفقوا عليها وشكلوا فصائل جهادية، وتحولوا في ريف حلب إلى أسطورة بدمويتهم ولغتهم العربية الثقيلة. وأي انتصار للمعارضة السورية سيقدم لهم أملا بحرب يكللها النجاح في بلدهم ص23.
ويرى مالاشينكو أن هذه التوقعات والتخمينات تفرض على الدولة الروسية المزيد من الحرص والحذر. فالمسلمون مادة قابلة للاشتعال، وموت الدولة السوفييتية يدعو للتحول من “سياسة ما بعد اابيروسترويكا” إلى “استراتيجية ” ما بعد الربيع العربي”. وبتعبير آخر هناك ضرورة لتبديل المقاربة وليس الخطاب لأن روسيا بحاجة لعلاج ناجع، وهذا لا يحصل بتخدير شعوبها بالوعود، كما جرى في العهد السوفياتي. وعلى روسيا، والقول لمالاشينكو، تطوير وعي موضوعي بما يمكن القيام به، وما نريد القيام به ونتمناه. ولا تزال توجد فرصة حقيقية أمام الروس لإقامة نظام أمان مناطقي من أهدافه تحقيق الاستقرار في الدول المجاورة لهم ص23.
في النهاية تبقى عدة أسئلة بلا إجابة:
الأول لماذا لا تستفيد موسكو من النخبة المسلمة التي كانت معبأة في مؤسسات واتحادات مؤمنة بالثقافة السلوفينية، مثل جماعة “دار رادوغا”، وبالأخص أن خبرتهم الوجدانية ستكون بمثابة ورقة بيضاء بيد الكرملين. وغيابهم عن الساحة لم يخدم أحدا سوى سوق الكتاب الغربي ومؤسسات الاستشراق. وإذا استضافت بكين باحثا واحدا في تاريخ الأديان من وزن فراس السواح، فقد جندت جامعة لندن نخبة هي أشهر من نار على علم، مثل كمال أبو ديب وصلاح حافظ، ومثلها جامعة كولومبيا، احتضنت إدوارد سعيد وهشام شرابي، وبقي لمؤسسة الاستشراق الروسية موظفون بيروقراطيون بلا مصداقية. وهذا يترك الحبل على الغارب لعواصم معروفة بماضيها الاستعماري في المنطقة، ورعايتها لمخططات مريبة تستهدف المشرق. وترتب على تفريغ مؤسسة الاستشراق الروسية تغريب للمشهد المعاصر في روسيا. واحتل الساحة خطاب لا يخدم قضايانا، ولا قضايا بقية شعوب العالم الثالث. ومن الملاحظ أن مروحة اهتمامات المثقف الروسي حاليا تغطي ريف شمال أوروبا، وتتجه على نحو متزايد باتجاه حضارة البلاد الباردة (وتستطيع أن تلاحظ تقمص بيتروشفسكايا لروح الأخوين غريم، وانحياز سوروكين ومثله المخضرم فالنتين راسبوتين لثقافة إصلاحية، تحارب الكآبة بالرعب والشر بالموت. وعلى وجه الخصوص راسبوتين، فهو على ما يظهر مؤمن بهزائم البشرية أمام الكوارث أكثر من إيمانه بفلسفة الانحطاط الإيجابي). وقد وضع هذا الرهان أصدقاء روسيا بحالة استلاب نموذجية، وأشبه بجزء ثانوي أو لا لزوم له في الآلة الضخمة. ومشكلة روسيا الآن أنها تتخلى عن “العاشق” التاريخي، مقابل “مساكنة” مع شركاء غير واضحين. وبصراحة لا أرى أن سياسة السوق ستغسل الإسلاموفوبيا من الأذهان، وتلحق أي ضرر ملموس بالاستراتيجية الغربية. فقد لعب “النازيون” بهذه الورقة، ولم تخدم مشروعهم. ودائما يوجد فرق بين استثمار نفعي للإسلام، وإسلام حضاري بهوية إنسانية.
الثاني كيف تضمن موسكو استقرار الحزام المحيط بها، وهي تعاني من تذبذب في قيمة صرف الروبل. ففي أحدث قراءة للباحث عدنان كريمة تراوح سعره بين 135 و76 عن كل دولار، قبل أن يستقر على 100 روبل ونيف. ولا يمكن تبرير هذا الاضطراب بزيادة الإنفاق (3). ولنكون واقعيين تحكم بالظاهرة عاملان: مضاعفة تكاليف العمليات العسكرية في أوكرانيا، وتوقف عدد كبير من المهنيين عن مزاولة أعمالهم بعد التعبئة الجزئية. ثم تكاليف تحييد إفريقيا وإبعادها عن المعسكر الغربي. وجاء ذلك بشكل تقديم معونات إسعافية تخفف من الأثر السلبي لحروب الاستنزاف في قارة دون وجه سياسي معروف.
الثالث كيف نقرأ ظاهرة بريغوجين. ومع أنها ليست لغزا، ولها دور مؤكد في مشروع بوتين، أحاط بنهايتها شيء غير قليل من الشذوذ والاضطراب. بعكس الجيوش الخاصة في المؤسسة الغربية، فهي غير مرتبطة بأشخاص، وتنفذ برامجها بتكتم، ولا تؤثر بالشعور الوطني. ويكفي التذكير ببلاك ووتر التي نشطت في 20 بلدا واستفادت من خدمات 16 ألف موظف أمني(4). وجي4 إس التي تنتشر في 125 دولة ويخدمها 645 ألف موظف. ولتاريخه يحاكم القضاء الدولي هذه التنظيمات وفق القانون المدني، ويعتبر أنها كيان تجاري (5).
الرابع لماذا لم تتنبأ المخابرات الروسية بلعبة الربيع العربي، وسمحت بتكرار فاجعة بغداد. وإذا كان صدام متهما بالكيل بمكيالين وعدم المصداقية، ماذا عن أسد سوريا وقذافي ليبيا.
الخامس ما هي الدواعي التي تترك فيها موسكو سماء أصدقائها مفتوحة لاستعراضات السلاح الجوي الإسرائيلي، ولا تعمل على حمايته كما تفعل أمريكا مع تل أبيب. وحتى مالاشينكو لاحظ أن ضعف أصدقاء روسيا هو السبب الأساسي لانسحاب السادات من الحلف الروسي. وترتب على هذه الفاجعة، التي سبقت سقوط بغداد بربع قرن، انتشار رموز الثقافة الغربية في كل أرجاء الشرق الأوسط، ابتداء من أزياء الشباب وحتى أدوات الاتصال الخفيفة. وإذا كانت هذه المسائل رمزية، فهي تعبر عن اتجاه الجيل التالي وأولوياته. ولا يجب أن يغيب عن الذهن تأخر وتردد موسكو بجملة مسائل، ومنها العملية العسكرية في أوكرانيا. فالمفروض أن تنتهي بغضون يومين، على غرار ما جرى في براغ وأفغانستان، ولكن دخلنا في العام الثاني للحرب، ونحن لا نعلم متى ولا كيف تنتهي، والأسوأ لماذا تحولت عملية خاصة إلى حرب عالمية مصغرة.
1- Russia and The Arab Spring. Alexey Malashenko. Carnegie Moscow Center. Moscow.
2- The Kremlin Violent Underbelly. The Moscow Times. Alexy Mashenko. 28 July 2009.
3-الروبل الروسي وعملة البريكس. عدنان كريمة. جريدة الاتحاد. أبو ظبي. السبت 19 آب. 2023
4- من تقرير للجزيرة مباشر. 29,12,2020.
5- الجيش. ع 369. آذار 2016 (مجلة عسكرية لبنانية تصدر عن مديرية التوجيه).
أليكسي مالاشينكو: توفي في مطلع عام 2023. كان معاون رئيس برنامج بحوث الأديان والمجتمع والدراسات الأمنية في مركز كارنيغي للبحوث في موسكو. عمل بالتدريس في كلية الاقتصاد، وفي معهد العلاقات الدولية في موسكو، وفي معهد الدراسات الشرقية في الأكاديمية الروسية للعلوم. وهو عضو هيئة تحرير مجلة آسيا الوسطى والقوقاز. له مؤلفات بالفرنسية والروسية والإنكليزية والعربية، من بينها: الإسلام في آسيا الوسطى (دار غارنيت 1994)، جبهة روسيا المقلقة (بالتعاون مع ديمتري ترينين، منشورات معهد كارنيغي لرعاية السلام العالمي 2004)، البديل الإسلامي ومشروع الإسلاميين (مركز كارنيغي للبحوث في موسكو بالتعاون مع فيس نير 2006)، روسيا والإسلام (مركز كارنيغي للبحوث في موسكو بالتعاون مع روسبين 2007)، إسلامياتي (روسبين 2010).