صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

زارع الورد

عشتُ عمراً قارب الخمسين، أو أقل منه بسنتين، وظننت أنني نقشت بعضاً من صناعة ذاتي، وكُنت وما زلت أسعى لتشكيل رؤية لمن أحبَوني وأحببتهم، أو أشاركهم في رسم خريطة لعوالم الجمال والثقة بالقدرات، ولكنني خططتها ورسمت لها في مُخيلتي عوالم مثالية، وظننت، (وبعض الظن إثمٌ) أنني سأكون في كثير من سعيي أنموذجاً يُحتذى لمن هُم منَي، مُحاولاً خداع نفسي، وصرَتُ أسعى لصنع حياة لأناس جذورهم مني، ولكنهم لم يكونوا (أناي)، ولا هم ناطقون بإسمي، لأنهم ذوات أخرى شكلتها مُتغيرات الواقع ومُتطلبات الحياة التي هُم أدرى بها، إنهم (خُلقوا لزمان غير زماني)، بعبارة تُنسب للإمام علي (ع)، وهناك من يؤكد أنها لسقراط بقوله “لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم” كما يذكر الشهرستاني صاحب كتاب “الملل والنحل”.

وحالي هذا لا يختلف كثيراً عن من يسعى من أصحاب الفكر المُنغلق، لتصدير فكره على أنه “سبيل النجاة” الأوحد، ولكنني ساعٍ للتخلي عن مهمتي هذه على أنني أمتلك مفاتيح الحلول لمشاكل من يختصون بيَ، وفي الوقت ذاته لن أتخلى عن مُحاولة مُساعدتهم في بناء حياتهم إن رغبوا، وإن ظنوا بيَ خيرا، وسأظل أكتب ما أراه صالحاً لبناء مُجتمع أفضل، لكنه رأي لا يُلزَم الآخرين، إلَا بالقدر الذي يجدون فيه ما يليق بحياتهم، وأحاول أن أكون كزارع الورد، ولكنه لا يتحكم بألوانه، فمن جماليات الورد تعدد هذه الألوان.

ولو سعى من يعتقد أن فكره حق يليق بالناس أن تلتحق به، فليجعل من فكره هذا بستان محبة لا إكراه فيه، فمن شاء من الناس أن يتبعه، فله ذلك، ومن لم يشأ من الناس، فذلك شأنهم، على قاعدة (اللهم بلغت، الله فاشهد)، و “لا تزر وازرة وزر أخرى” (فاطر/18). لكان برؤيته هذه زارع للمحبة، كزارع الورد في أرض لا ورد فيه، فهو قد أحياها، ومن يُحيي مثل هذه الأرض، فهو باعث للبهجة في نفوس الذين يعيشون فيها، ومن يبعث البهجة في النفس، إنما هو يُحييها، ومن يزرع الحقد بديلاً عن الورد، فحاله حال “من قتل نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً” (المائدة/32).

لنكون مرة واحدة خارج هيمنة التفسير الفقهي الُمنغلق للنصوص الدينية، ولنجعل منها نصوصاً حمَالة أوجه بتعبير الإمام علي (ع) حينما قال “القرآن حمَال أوجه” ولنختر من وجوه القرآن ما يُتيح لنا فُسحة الرحمة والمغفرة وفق قوله تعالى “لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه الغفور الرحيم” (الزمر/53) أو كما يقول الحديث النبوي الشريف “أن الله جميل يُحب الجمال”.

وأظن أنني أروم أن أكون زارع ورد، في قولي هذا واستشهاداتي المُستمدة من النصوص القُدَسية، ولا نية ليَ ولا مسعى لأكون بيَاع كلام، ولا حتى بيَاع ورد، وإن كُنت في هذه اللحظة أُنصت لأُغنية (حضيري أبو عزيز) (عمي يبياع الورد) بشدوٍ ريفي يروم خلق عوالم للجمال فيها من سحر الريف وخلط له بعبق عطر المدينة، (إو بالك تدوس إلى الورد واتسوي خلَه، خله)، (ورد الزرعته خوش ورد، ولا نية ليَ ولا مسعى لأكون بيَاع إو بيدي زرعته، والمر يا هل مخلوك ترى لأجله جرعته).

(مو كل ورد زرعوا ورد، والريحة طيبة طيبة… إيصح ورد مو خوش مو خوش ورد راسك يشيبه، يشيبه).

(ورد الزرعته خوش ورد إو بيدي شتلته، من دجله والفرات يُبه مايه خُبطته).

وكما شدى طلال مداح “وردك يا زارع الورد، فتح ومال عل العود، كل في ربيع الورد إن الجمال موعود، وردك جميل محلاه فتح على غُصنه، لما الندى حياه نوَر وبان حُسنه). أو كما صدحت حُنجرت أم كلثوم “الورد جميل، جميل الورد”، وحين اليأس يُطربنا عبد الحليم بأغنيته “رميت الورد، طفيت الشمع ياحبيبي، آه.

والورد سيبقى مثال نلهج بعطره وبتعدد ألوانه، فهو مثال للبهجة والمودة والمحبة والتعبير الشفيف لشغفه لماء وسُقيَا الحبيب.

في نفسي لو تسنى ليَ الوقت والثقة، أن أكون زارع وردٌ، وزارع لمحبة فيها لطافة وبناء لحياة أملأ حدائق أزهار من من قلبي الشغوف بمحبة المُغايرين، لأن في مُغايرتهم كشف عن الضامر في نفسي من أن في مُتبنياتي الفكرية حق يقصي الآخرين.

سأزرع الورد، وسأكون فلَاحاَ (زارعاً للورد) في عوالمي التي فيها أعيش.. في نفسي سعي للقبض على مُتطلباتها، وفي نفس الذين بعدي سعي للبحث عن بسط، ولكنني سأسعى لغرس بساتين من المحبة لأحذف تاريخ الحقد بين أناس عشت معهم، ولربما بهم كُنت، وسأكون زارعاً للورد في موطن بستان التنوع الفكري والديني، والعرقي، والمذهبي، وطني الذي كانت تنوعات بساتين ورد المعرفة فيه، مصدر إلهام للعالم كُله. أ لم تكن بغداد عاصمة الدنيا وحاضرتها؟!، ولا تظنون بأنَي حالمٌ، ولما لا فالأكن حالماً، فكل حروب الدُنيا وصراعات الأمم، لم يكن يتوقع أصحابها نهاية لها، ولكن كثيراً منها إنتهت بفضل وجود حالمين، من زارعي الأمل والساعون لنشره، فكم من حروب وصراعات انتهت بفضل هؤلاء، وحتى في الحرب كان كثيرٌ من الجنود حالمين بعودة لوطن، ويعيش كل واحد منهم لحظات حُلم جميل وسط لهيب المعركة، يحلم بأم، أو زوجة، أو حبيبة، أو أخوة، أو أصدقاء، يُحادثهم ويُحادثوه، ليفيق على صوت قصف أو مقتل صديق بجواره بإطلاقة قنَاص، ولكن يبق هُناك مُتسع في كل آهات الحروب لتقبل أنفس وردية حالمة، وفي كل آوان هُناك زارع للورد مُقبلٌ على الحياة وهو عارفٌ بخفايا الأمور وتقلبات الأزمان، أو الدهور، ولا يعني هذا البتة أن زارع الأمل (الورد) لا يعي مقدار الخطر، بل لربما يكون هو أكثر الناس دراية به وخبرة، وربما عاش كثيرٌ من الآلام، وخبَر أن الصراع لا يُنهي التنوع والإختلاف، ولكن قبوله والإعتراف بوجوده هو بداية الحل لهذا المُشكل.

إقرأ أيضا