صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

سرديات صاخبة

منذ مدة وأنا أعمل على ما أسميه \”سرديات الضحايا\”. ودعوني أقول إنني لا أستطيع تحديد إذا ما كانت هذه ظاهرة عراقية بحتة؟ ولكني أستطيع أن أقول إنها ظاهرة ملموسة في الأدب العراقي، وتحديدا في السرد العراقي، خاصة ذلك الذي يُنسب إلى ما بعد التغيير، أو إلى ما بعد 2003.

 

وسرديات الضحايا هي، ببساطة، بناء السرد أو الرواية (بمعناها العام وهو ما سأحاول أن أشير إليه هنا) على مجموعة من الفرضيات، في مقدمتها انحراف الفكر السياسي والعمل السياسي في العراق وقسوة الدكتاتورية، وظلم العادات والتقاليد الاجتماعية وتخلف المجتمع، وقسوة الوسط الثقافي وعدم التفاته إلى الحركات التجديدية أو إلى الحساسيات الإبداعية التي تظهر ويقودها أشخاص بعينهم من بينهم كاتب الرواية أو التجربة في حالة الكتب غير الروائية سردية الطابع مثل تهافت الستينيين لفوزي كريم أو الروح الحية لفاضل العزاوي. وهما المثالان اللذان يقدمان أكمل صورة لسرديات الضحايا في المجال الذي تُبنى عليه كتب تعتمد السرد في تبرير موقف فردي بالدرجة الأولى من الأحداث التي يعيشها العراق وتحوّلها إلى الأسوأ فالأسوأ، ما يستدعي كتابة تقدم صورة لحقبة ولجيل أدبي، وتحاول أن تبرر، من خلال سرد الوقائع والأحداث، موقف الكاتب والمثقف كما في حالة فاضل العزاوي تحديدا. وهو سرد تنتجه ذات تعدّ نفسها ضحية للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي أشرت إليها قبل قليل.

 

وفي مقابل سرديات الضحايا هذه ينتج سرد مواز يحسن الالتفات إليه لأنه يقدم صورة لطبيعة الثقافة العراقية، قبل كل شيء، ولطبيعة المثقف العراقي، الذي ما زال إلى هذه اللحظة ينقسم إلى خندقين متقابلين، ويجد نفسه دائما ملزما في كليهما بالتعبير عن موقف موجه بالضرورة للخصم أو لمن يقف في الخندق الثاني ناسيا أن هناك مشكلات في الواقع تحتاج إلى التأمل والعناية والكتابة عنها. وهو ما يجعل المثقف العراقي، بطريقة ما وفي أحيان ما، تاريخيا ومنحازا وتحزبيا وطائفيا. وهو ما يجعله غير قادر على التأمل والاستشراف.

 

هذا يعني أنني مبدئيا لا أستطيع أن أصنف الكتاب الذي أقدمه هنا، وهو كتاب الموجة الصاخبة لسامي مهدي، على أنه كتاب سرديات الجلاد في مقابل كتاب فاضل العزواي الذي يُصنف ضمن سرديات الضحايا. ويعني أيضا أنني لا أريد أن أتحدث عن سرديات الضحايا لذاتها، ولكن في سياقها التاريخي والثقافي ولأنها جاءت متلازمة مع سرديات أخرى مقابلة ينتظم عليها كتاب الموجة الصاخبة. ففاضل العزواي في الأساس حاضر في ذهن سامي مهدي وهو يكتب كتابه، والأخير يعبر عن ذلك الحضور ويسعى في البداية إلى تفنيد أسس عمل العزاوي وشرعيته وصدقيته.

 

ولأعد إلى سمات كتابة العزاوي من وجهة نظر سامي مهدي. وهي:

أولا: لا تقوم على حافز ذاتي وإنما تقوم على التقليد والرغبة في الظهور والانتشار. فالعزاوي، أو غيره، لم يكتب شهاداته في حينها لولا ما وصل إليه من كلام سامي مهدي عن رغبته في الكتابة عن جيل الستينيات الشعري.

 

ثانيا: سرديا يقوم سرد العزاوي عن جيل الستينيات على الذاكرة. والذاكرة تخون، وذلك يعني الخلط والتوهم والتزييف والادعاء والإيهام. وهو ما يتابعه مهدي عند العزاوي في أكثر من مكان من شهادته التي نشرها في مجلة فراديس الألمانية العام 1992.

 

ثالثا: تحرك السرد دوافع شخصية، كما تبدو لمهدي، وضيقة وشاذة ثقافيا وإنسانيا. وتلك الدوافع هي دافع سياسي عدائي ودافع ذاتي نرجسي.

 

ومن كل ذلك تأتي السمات العامة لكتاب فاضل العزاوي. وهي: 

– إضفاء مسحة زائفة من البطولة والشهادة على الدور الفردي ومصادرة أدوار الآخرين.

– المبالغة والتهويل في كل ما يتعلق بالدور الشخصي للراوي، وهو العزاوي، والسكوت عن أدوار الآخرين أو تحريفها أو تقويلها أو نسبة السوء إليها.

 

وبإبراز عيوب سرد العزاوي أو شهادته عن جيل الستينيات ستتضح ملامح كتابة سامي مهدي عن الحقبة ذاتها. وهي:

أولا: إنها أصيلة ومبتكرة وإبداعية ولدتها انتماء سامي مهدي إلى ثقافة الداخل العراقي وإبداعه وتواصله معه وإحساسه بما يتطلبه من كتابة تعيد وصل الجيل الستيني وتجربته بما قبله وما بعده من الأجيال الثقافية الإبداعية.

 

ثانيا: تحكم كتابة مهدي، كما يرى هو، غايات ثقافية تتراجع معها الرغبة في تضخيم الذات أو في تبرير مواقفها. فهو يكتب للحقيقة والتاريخ مبتعدا عن أي مساس مباشر للذات بالمكتوب الذي يأتي بدوره بعيدا عن المبالغة والتزييف ومبنيا على الوقائع التاريخية وغير متكئ على الذاكرة.

 

سيكون الفرق بين شهادتي العزاوي ومهدي، كما يعتقد الأخير، كبيرا. فالأولى تعتمد الافتراء والمغالطة لأغراض سياسية حقودة ودوافع ذاتية أنانية، والثانية موضوعية نزيهة خالية من تلك الأغراض والدوافع. وتلك شهادة زور لا تستحق سوى الإعراض، وهذه شهادة صدق لا يؤاخذ عليها المرء إذا نسي أو أخطا أو انحاز إلى ذاته أو غيره انحيازا معقولا.

 

وهو، من ناحية بعيدة، الفرق كما يراه كاتب له سلطة ونفوذ، وبه يبرر حقه في ان يكون جديرا بوضعه الثقافي والأدبي في العراق، لأنه كما يرى يستغله على الوجه الصحيح لسمات شخصية فيه، وهو ما يؤكد صحة موقف النظام السياسي القائم آنذاك من مثقفين كالعزاوي، \”فإذا كان هؤلاء السادة – والكلام لمهدي – على هذه الدرجة من الاستعداد للحقد والكذب وتشويه الحقائق وهم بلا سلطة ولا نفوذ فكيف كان الأمر سيكون لو كانت لهم سلطة\”.

 

هل يمكن إذن أن نقول إننا في كتاب الموجة الصاخبة، أمام سرديات الداخل مقابل سرديات الخارج. وإننا أمام سرديات حزب حاكم مقابل سرديات حزب معارض. وأمام سرديات شخصية واقعية وفاعلة ومؤثرة في الداخل كما كان عليه سامي مهدي وهو يناقش ويكتب ويجادل ويتبنى قضايا الحداثة ويحيي الجمعيات كجمعية الكتّاب والمؤلفين في مقابل سرديات شخصية انهزامية تتمحور حول ذاتها. وإننا أمام سرديات شخصية إيجابية وفعالة ومقاومة في مقابل سرديات شخصية سلبية وكلامية وانسحابية؟!

 

كل هذه فوارق يقيمها سامي مهدي في الموجة الصاخبة بينه وبين العزاوي. وهي تساعد في تحديد بعض ملامح سرد الضحايا لأن الكتابة، في الموجة الصاخبة، تتوجه إليها توجها مباشرا، أو غير مباشر، وتقيم سردها على أساس الاختلاف عنها. كما أنها تساعد على فهم طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة وتضيء بعض جوانب المثقف العراقي وتدعونا إلى إعادة النظر في مواقفنا الراهنة من الأحداث التي نشهدها، بما يسهم في تخفيف انتمائنا إلى سلطة أو مبدأ أو فكرة غير سلطة العقل ومبدأ الإنسانية اللذين تقوم عليهما الثقافة وينتج من خلالهما السرد، وبعيدا عن ثنائية الضحية والجلاد وما ينتج عنهما.

إقرأ أيضا