سقوط (داعش) بداية النهاية لتنظيم (القاعدة)

جاء الحراك الشعبي العربي عام 2011 متجاوزاً للأطر الفكرية والعقائدية التقليدية لمختلف قوى \”الإسلام السياسي\” والقوى السياسية الأخرى، ولذلك كان ظهور مجموعات متطرفة، مثل جماعة \”داعش\” في صفوف الجماعات المسلحة المعارضة مؤشراً على انحراف خطير، قبل أن تثبت الأيام الأخيرة عدم قابلية هذه المجموعات أن تصبح جزءاً من المعادلة السياسية المجتمعية.بسقوط جماعة \”داعش\” ينكشف تنظيم \”القاعدة\” على حقيقته، كتنظيم إرهابي متطرف ومرفوض جماهيرياً، في مجتمعات عرف عنها تاريخياً التدين في حدود الوسطية والاعتدال، كالمجتمعين السوري والعراقي، ولعل أحد التحديات التي فرضها الحراك الشعبي العربي على قوى \”الإسلام السياسي\” هي ضرورة إجراء مراجعات فكرية وأيدلوجية وصولاً إلى البرامج السياسية وأدواتها، مثلما فرض ذلك أيضاً على القوى السياسية الليبرالية والقومية واليسارية، وفي مثل هكذا معادلة من البديهي لا مكان للفكر الإرهابي المتطرف، فالشعار العريض والملهم الذي رفعه الحراك الجماهيري العربي هو دولة مدنية تحترم الحقوق العامة والخاصة لكل مواطنيها، وتقوم على مبدأ فصل السلطات، وتستمد الشرعية فيها من خلال صناديق الاقتراع.
وفرض المراجعة يعني أن الحراك الشعبي العربي انطلق متجاوزاً منذ البداية للأطر والعقائد التقليدية على اختلافها، وأحد جوانب الإشكالية التي وقعت فيها بعض قوى \”الإسلام السياسي\”، التي وصلت إلى السلطة، أنها لم تمد المراجعات إلى المدى المطلوب، لذلك نجحت في الانتخابات لتسقط في امتحان السلطة، رغم كل التحذيرات من هذا المآل، ويعود هذا إلى بقاء مظاهر خلل كبيرة في النظرة إلى علاقة الإسلام بالدولة المدنية، وإن بدت بعض تلك القوى تظهر قدراً من التوائم مع منطق الدولة المدنية، لكن مع وضع تحفظات قللت من أهمية التوائم وجعلته منقوصاً.

في خضم المعادلة السابقة لم تكن للحركات الإرهابية المتطرفة، على غرار تنظيم \”القاعدة\”، أي فرصة في انتزاع موطئ قدم في سياق التحولات الجارية في البلدان العربية التي قام فيها حراك شعبي معارض، إلى أن امتلكت فرصة ذهبية لن تكرر، بتحول الصراع في سورية إلى صراع مسلح بين السلطة والمعارضة، وفشل المعارضة السياسية في استيعاب جماعات المعارضة المسلحة، مما أدى إلى حالة من الفوضى العارمة استغلها تنظيم \”القاعدة\” لزرع جماعات تابعة له في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة.

وفي مرحلة متقدمة برز خلاف واسع بين الفرعين الأكبر لـ\”القاعدة\” في المنطقة، \”تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام\”، والمعرف اختصاراً بـ(داعش)، وبين \”جبهة النصرة\” التي لم تكن معروفة سابقاً، وحسم زعيم \”القاعدة\” أيمن الظواهري الخلاف لمصلحة \”النصرة\”.

بيد أن \”داعش\” تمردت على قرار الظواهري، وواصلت دورها الذي رسمته لنفسها في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، إلى أن انفجر قبل أيام صراع مسلح بينها وبين باقي الجماعات المسلحة، بما فيها \”جبهة النصرة\” التي استشعرت الرفض الجماهيري والسياسي واسع النطاق لتنظيم \”داعش\”، وما سيعنيه اندحار \”داعش\” كـ(بداية النهاية) لتنظيم \”القاعدة\”، الذي تشكل \”جبهة النصرة\” أحد فروعه.

وسيشمل السقوط لاحقاً أي جماعة مسلحة تتبنى أيدلوجيات عامة تناقض منطق الدولة المدنية، لأنها تعتاش على حضور ثانوي فرضه انحراف الصراع إلى شكل مسلح دموي، وعليه هي ترفض أي حلول سياسية للصراع، لأنه لن يكون لها أي دور سياسي فاعل في المستقبل، فهي أبعد ما يكون عن تطلعات الشارع ومطالبه، بل هي عامل من عوامل إجهاض التطلعات والمطالب الشعبية العادلة، وحرفها عن مسارها، وأمام أي معركة سياسية ستفشل تلك الجماعات بامتياز في اختبار حقيقة وزنها.

إن دحر \”داعش\” وسقوط تنظيم \”القاعدة\” بعد انكشاف مخاطر فكره المتطرف وأيدلوجيته وأدواته الدموية، يخدم الحد من تصاعد العنف في الأزمة السورية رغم تعقيداها، ويعزز فرص إمكانية تسوية دبلوماسية تحقق مصالح كل أبناء الشعب السوري، فالكرت الأحمر الذي رفعه الشارع السوري في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، مرفوع في الوقت ذاته لأي مجموعة مسلحة متطرفة، فمئات السنين من قيم التسامح والتدين الوسطي المعتدل غرست في الوعي المجتمعي السوري، وفي المجتمعات العربية عموماً دون الدخول في بعض الاستثناءات، رفض الأفكار والأيدلوجيات المتطرفة.
 
وإذا كان هدف الحراك الشعبي العربي تحقيق دولة مدنية، وهو بالفعل كذلك، فإن هذا يمر بالضرورة من بوابة كسر تابو الحجر على الحريات العامة والخاصة، جنباً إلى جنب مع كسر طوطم الجمود العقائدي والأيدلوجي بصرف النظر عن مرجعيته، وتنظيم \”القاعدة\”، الذي يقف ضد السيرورة التاريخية لتطور المجتمعات العربية، آن الأوان أن تنتهي ظاهرته، بعد كل ما ارتكبه من جرائم منذ تأسيسه في تسعينيات القرن الماضي، أدت إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين وتصاعد ظاهرة (الإسلاموفوبيا)، وتدفع ثمن ذلك المجتمعات العربية.

لكن سقوط تنظيم \”القاعدة\”، بسقوط فكره وأدواته، يبعد الخطر الأكبر، المتمثل بزيادة مخاطر نشوء حروب طائفية تقوض مجتمعات دول المشرق العربي من داخلها، وتفتت أوطانها.

لقد دفع السوريون ثمناً غالياً قبل أن تنكشف حقيقة جماعة \”داعش\”، وفي الإطار الأوسع تنظيم \”القاعدة\” والجماعات الأخرى المتطرفة، لكن \”داعش\”، ومن خلفها \”القاعدة\”، دفعت في نهاية المطاف ثمناً ما كانت تتوقع دفعه، لأن فكرها المتطرف مغترب عن الواقع وأيدلوجيتها الدموية تعادي منطق الحياة، إلى درجة أن بعض المتطرفين لم يستطيعوا غض النظر عن ممارسات \”داعش\”، وشاركوا في دحرها.

مما يضع إشارات استفهام على مستقبل \”القاعدة\”، التي يتوقع لها أن تظل إلى حين ظاهرة صوتية إعلامية تهدد بعمليات إرهابية عالمية، وحتى لو نفذت بعضاً منها، إذ أن الأسطورة تحطمت، وتنظيم \”القاعدة\” في طريقه للتفكك والانهيار.

وفي المستقبل القريب ستتضح الصورة على نحو أكثر دقة في الشكل الذي سترسو عليه علاقة \”جبهة النصرة\” مع باقي جماعات المعارضة السورية المسلحة، ارتباطاً بعلاقة \”النصرة\” مع تنظيم \”القاعدة\”.

فرغم أن الظاهري سبق وأن رفع الغطاء مكرهاً عن \”داعش\”، تظل العلاقة مع \”القاعدة\” أمراً لم يعد من الممكن السكوت عنه، وفي الإطار الأوسع لم يعد من الممكن السكوت عن أي شكل من أشكال التطرف والإرهاب يحاول أن يتستر زوراً وبهتاناً وراء معتقد ديني أو طائفي، وسيفشل كل من يراهن على خلاف ما سبق.

إقرأ أيضا