لعل الاتفاق المؤقت الذي تم التوصل إليه في جنيف بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا من جانب وإيران من الجانب الآخر الصفقة الأفضل التي قد يتم إبرامها على الإطلاق للحد من برنامج إيران النووي، في ظل الأوضاع والظروف الراهنة. فلم يكن لدى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أي استعداد لخوض مجازفة الخيار العسكري، وكان عدم التوصل إلى اتفاق ليسمح لإيران للمضي قدماً دون أية عوائق تحول دون امتلاكها الأسلحة النووية.
في عالم مثالي، كانت إيران لتجبر على التخلي عن برنامجها النووي بالكامل وتسليم كل اليورانيوم المخصب لديها لقوة خارجية؛ ولكن على أرض الواقع لم يكن هذا في الإمكان. وعلى هذا فإن نتائج محادثات جنيف تتلخص في نجاح إيران في تأمين بعض الشرعية الدولية كقوة على أعتاب التحول إلى قوة نووية، وهو ما يثير القلق والانزعاج الشديدين بين جيرانها الإقليميين، من المملكة العربية السعودية وإسرائيل إلى تركيا ومصر ودول الخليج الصغيرة والضعيفة.
إن رجال الدولة في الغرب لديهم كل الحق في تهنئة أنفسهم على تجنب أزمة كبرى وشيكة. ولكنهم مخطئون إذا تصوروا أنهم تمكنوا من حل مشكلة التهديد النووي الإيراني. الواقع أنه من السذاجة أن نتصور أن الاتفاق النهائي مع إيران يمكن تحقيقه في الأشهر الستة القادمة: فسوف يحرص الدبلوماسيون الإيرانيون المخضرمون على عدم حدوث أي شيء من هذا القبيل.
لذا فبرغم أن الاتفاق المؤقت قد لا يكون نسخة مكررة من اتفاق ميونيخ في عام 1983، كما يؤكد العديد من المنتقدين، فإنه قد يمهد الساحة لمستقبل أكثر قابلية للاشتعال. وقد لا يكون الرئيس الأميركي باراك أوباما في منصبه عندما تشتعل النيران، ولكن إذا ساءت الأمور إلى حد مروع فقد يتذكره العالم بوصفه رجل دولة آخر، مثل نيفيل تشامبرلين، لم يدرك العواقب التي قد تترتب على نواياه السلمية.
ينبع السبب الرئيسي وراء هذا التشاؤم من السياق الجيوسياسي الأوسع للاتفاق المؤقت، والذي كان موضع تجاهل لصالح البعد الإقليمي. والواقع أن الاتفاق، الذي يقضي بتخفيف الكثير من الضغوط الاقتصادية المفروضة على النظام الإيراني، جاء نتيجة لنجاح روسيا في تأخير العقوبات الدولية ضد إيران ورفضها العنيد لتشديدها.
إن البرنامج النووي الإيراني في نظر الكرملين مجرد فصل في حملة لإعادة التأكيد على دور روسيا كقوة عظمى. بل وربما كان من الواجب أن ننظر إلى الاتفاق المؤقت باعتباره حلقة أخرى في سلسلة من الانتصارات الدبلوماسية التي أحرزتها روسيا مؤخراً في مواجهة الولايات المتحدة.
إن الإدارة الأميركية الحالية تفتقر إلى ذلك النوع من الاستراتيجية الكبرى القادرة على إلهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتن. فهي بدلاً من ذلك تفكر في كل قضية على حِدة، وتسير على غير هدى في ما يتعلق بكيفية إيجاد التوازن بين دورها كقوة عالمية والتزامها بالقيم الليبرالية، ويقودها رئيس من الواضح أنه يعتقد أن اللغة الخطابية المحلقة في الأعالي تصلح بديلاً للفكر الاستراتيجي. ولا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا: فالاتفاق المؤقت مع إيران يُعَد انتصاراً مدوياً للرئيس بوتن وليس للرئيس أوباما ووزير الخارجية الأميركي جون كيري.
وسرعان ما أعقب هذا الانتصار نصر آخر ــ القرار الذي اتخذته أوكرانيا برفض اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واختارت بدلاً من ذلك الانضمام إلى مشروع بوتن، أو الاتحاد الجمركي الأوراسي المصمم لإعادة تشكيل قسم ككبير من الاتحاد السوفييتي القديم باعتباره منطقة اقتصادية موحدة. ومن ناحية أخرى فإن الأزمة السورية أيضاً تسلك الطريق الذي رسمه الكرملين، حيث يظل الرئيس بشار الأسد في السلطة برغم إصرار أوباما على رحيله.
كان تهديد أوباما في الصيف الماضي باستخدام قوة محدودة في سوريا مجرد بلاغة فارغة. فربما أقنع ذلك التهديد الأسد بالتخلي عن الأسلحة الكيميائية، ولكن التهديد الروسي باستخدام حق النقض ضد أي قرار صارم من قِبَل مجلس الأمن ضد سوريا كان كفيلاً بضمان احتفاظ نظامه المجرم بالسلطة. وحتى إذا تم عقد اجتماع جنيف الثاني في يناير/كانون الثاني فإن روسيا سوف تضمن بقاء الأسد على العرش.
وبوسعنا أن نرى الخواء الاستراتيجي الأميركي أيضاً في مصر في أعقاب الإطاحة عسكرياً بحكومة الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي. فكان عدم يقين أوباما حول كيفية التعامل مع الانقلاب سبباً في خلق موقف سخيف حيث انتهت الحال بأغلب الجماعات ذات التوجه الغربي في مصر ــ النخب العسكرية والعلمانية التي دعمت تحالف مبارك مع الولايات المتحدة ــ إلى التحول الآن في يأس باتجاه روسيا لتأمين الإمدادات العسكرية في المستقبل.
إن العقود الطويلة من الفكر الاستراتيجي والدبلوماسية الأميركية، التي بدأها هنري كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي والتي كانت تهدف إلى فطام مصر عن تحالفها مع روسيا، تبدو الآن عُرضة لخطر الذهاب هباءً بسبب عجز أوباما عن التوصل إلى قرار بشأن الإطاحة بالرئيس السابق مرسي. بطبيعة الحال، ليس من السهل دعم انقلاب عسكري ضد رئيس منتخب ديمقراطيا (حتى ولو كان مثل مرسي الذي قوض قيم الديمقراطية ومؤسساتها التي أتت به إلى السلطة). ولكن المرء ليتساءل كيف كان أوباما ليتصرف في عام 1933 لو قامت المؤسسة العسكرية الألمانية بالإطاحة بهتلر (الذي عين مستشاراً لألمانيا بعد فوزه بالانتخابات على أية حال).
ولا ينبغي لنا أن نشوه صورة روسيا ــ أو بوتن ــ لتخوفها إزاء هذه التطورات. فمن حق روسيا أن تشغل مكانها كقوة رائدة. ويتعين على الولايات المتحدة أن تنأى بنفسها عن سياسة الاستبداد. ولكن في مواجهة السياسة الروسية الحازمة الرامية إلى إعادة ترسيخ النزعة الإمبراطورية، والتي أصبحت واضحة الآن في القوقاز أيضا، فإن الولايات المتحدة تبدو عاجزة عن إدراك الكيفية التي تتشابك وتترابط بها التطورات العالمية. ولكن هل يتساءل أي شخص في واشنطن كيف قد يكون هناك ارتباط بين اتفاقات جنيف بشأن سوريا وإيران وبين رفض أوكرانيا الاقتراب بشكل أكبر من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن تصميم استجابة استراتيجية؟
إن الخيار الذي يواجه الولايات المتحدة الآن ليس اتخاذ موقف متفاخر متهور أقرب إلى جنون العظمة كما فعل جورج دبليو بوش وليس الانسحاب العالمي. إن عودة روسيا إلى الظهور تدعو إلى استجابة أميركية متعقلة، تجمع بين قوتها المتفوقة والاعتراف بالقيود المتأصلة التي تحد من القدرة على استخدام هذه القوة. ولكن يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية غير قادرة على تحقيق هذه الغاية، ومن المؤكد أن نزعة حزب الشاي الانعزالية ليست الحل. إن السياسة الخارجية الأميركية التي تسير على غير هدى ليست الاستجابة السليمة لروسيا الاستبدادية الجديدة المستعيدة لعافيتها والتي تستعرض عضلاتها الجيوسياسية. ولعل الحنين إلى عهد مترنيخ أو كيسنجر ليس بعيداً عن الاستجابة المطلوبة.
*شلومو أفنيري، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية في القدس وعضو في الأكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات، شغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية برئاسة رئيس الوزراء اسحق رابين.
**ترجمة: مايسة كامل
***المصدر: project-syndicate