إن العلاقات السورية المصرية هي علاقة ديناميكية وحيوية قد يعتريها بعض المتغيرات، إلا إنه من المهم ألا تعطي هذه المتغيرات أكثر من حجمها، ويجب عدم النظر إليها إلا في إطار المتغيرات العارضة التي سبق أن صادفتها مسار العلاقة بين البلدين في فترات متعددة، كونها لم تمس ثوابت هذه العلاقة وثوابت الأمن القومي ككل، فكلما دخلت العلاقة السورية المصرية في طور من التقلبات نجد إنها تخرج سريعاً لتدخل في طور من القوة بما تمليه الحتمية التاريخية وتفرضه وحدة التحديات. فالمتتبع لتطورات حركة الصراع في المنطقة العربية يصل الى نتيجة واضحة هي أن الهدف الرئيسي منها يتمحور حول منع ظهور أي قوة إقليمية على أساس عربي إسلامي، وإفراغ العروبة من محتواها الفكري والسياسي والاقتصادي، وتصفية ما تبقى من بيت العرب من موروثات عالقة على غرار التضامن العربي أو العمل العربي المشترك.
لقد كانت العلاقات السورية المصرية الى حد كبير تشكل ضابطاً لا شك فيه، في سياسات النظام الإقليمي، وبعد أن تم قطع العلاقات السورية المصرية وتحولها الى عداء مكشوف تأثر النظام الإقليمي بشكل واضح، وتبعثرت الإمكانيات وكثرت الاختراقات الخارجية، والتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد العربية، وبرزت الصراعات الحدودية الإقليمية والحروب الإعلامية، ولم يخل سجلها من حملات التشهير والتصعيد التي فاقت التصورات كلها.
وبعد عزل الرئيس محمد مرسي الذي اتخذ في منتصف حزيران الماضي قرارا بقطع العلاقات مع سورية، والذي فاجأ به وزارة الخارجية المصرية، وخرج عن كل الأعراف الدولية، ووضع مصر في حرج شديد تجاوز المستقر في الاستراتيجية المصرية التي ينص أحد مبادئها على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، كان الموقف يحتاج الى علاج سريع يقضي تماماً على أسباب التوتر ويهيئ ظروف أفضل على المستوى السياسي والاجتماعي، فكان قرار عودة العلاقات السورية المصرية أمراً لا بد منه ومطلباً سورياً ومصرياً وعربياً حتى، وإدراك واع لمغزى هذه الخطوة التي ظل الشعبين السوري والمصري يرتقبها منذ فترة طويلة، نظراً للعلاقة الأخوية الوثيقة التي جمعت بينهما على امتداد التاريخ العربي، وما حققته الروابط من نتائج، تركت بصماتها خلال حقب تاريخية مختلفة دفاعاً عن الوطن العربي بأسره، وكذلك تعاونهما في التصدي للأخطار التي هددت الأمة العربية، كونهما شكلا قاعدة للدفاع عنها ابتداء من المغول والغزوات الصليبية وانتهاء بالتصدي للصهيونية المتمثلة بإسرائيل.
فما من شك إن كلا البلدين لهما وزنهما وأهميتهما في المنطقة العربية، إذ أكدت دروس التاريخ أنه كلما كانت سورية ومصر في خندق واحد، وموقع واحد متضامنتين فإن ذلك يحقق الأمن والاستقرار للوطن العربي، وعلى النقيض من ذلك فإنه كلما فترت هذه العلاقة فإن المردود السلبي لن يقتصر على الشعبين السوري والمصري وإنما يشمل شعوب الأمة العربية. ولذلك ينظر الشعبان السوري المصري الى هذه العلاقة على إنها لها أهميتها وعمقها وحيويتها الآن وفي المستقبل، لأنه ليس في مقدورنا أن ننفصل عن تاريخنا وتراثنا وحاضرنا، لكن المفاجأة لن تكون فقط في عودة العلاقات ما بين سورية ومصر، بل سيكون أيضاً في استعادة سورية لمقعدها في جامعة الدول العربية، خاصة بعد التغيير الذي شهدته قطر وهي الدولة التي دعمت طرد سورية الرسمية من الجامعة العربية، بالإضافة الى ما تمر به تركيا من اضطرابات وتوترات تؤثر بشدة على دورها الإقليمي، أو تدخلها في الشأن السوري.
إن حالة التردي التي سادت العلاقات السورية المصرية وعلى مستوياتها الرسمية خلال السنوات الماضية بين التعثر والتقلب، أدت لانتكاسات كبرى في مسار العمل العربي المشترك وأعطت نتائجها السلبية على أكثر من قضية وعنوان سياسي في المنطقة، مما أدى الى غياب دور سورية ومصر، الفاعل والمؤثر، عن ساحة العمل العربي المشترك وبروز أدوات إقليمية مجاورة التي باتت كل منها أوسع حضوراً وتأثيراً وفعلاً في ميدان الساحة الإقليمية الدولية، وأكثر تقريراً في مسائل محددة ذات صلة بما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بدول الربيع العربي.
بالرغم من أن العلاقات السورية المصرية مرت بمراحل متعددة الجوانب، فالهدف بقي واحداً. فالمخزون لدى شعبي البلدين يؤهلهما ليكونا في طليعة الشعوب العربية القادرة والفاعلة في حركة العمل العربي، بل هما الأساس بفعل عدة عوامل تاريخية وجغرافية ومكانية، ويبقى غطاء ذلك كله الحركة الثقافية الموحدة للفكر القومي الذي يجمع هذه الأمة.
وبالمقابل ما زالت هناك قوى تتربص لضرب العلاقات السورية المصرية وعزل سورية عن الصف العربي، وفي مقدمتها الشقيقة مصر، لأنها تدرك جيداً خطورة التقارب السوري المصري على مصالحهما الحيوية في المنطقة.
وبالتالي فإن تعزيز الفرقة والتشتت بين الأقطار العربية وعلى الأخص سورية ومصر يصب في مجرى تفتيت الأقطار العربية الى دويلات عرقية وطائفية والى قوى عشائرية داخل الوطن الواحد التي تخطط له إسرائيل وحلفائها، من أجل أن لا تقوم قائمة للعرب. لقد عملت الدول الاستعمارية في بداية القرن الماضي على منع قيام وحدة بين شطري الوطن العربي في آسيا وأفريقيا، بزرع دولة عدو لسكان المنطقة العربية وصديقة للاستعمار. جاءت بعد ذلك اتفاقية سايكس بيكو التقسيمية التآمرية، ثم كان وعد بلفور وتم انشاء الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. يراد من ذلك تفتيت الدولة العربية الواحدة، وصهر وحدة النسيج الاجتماعي العربي في المجتمعات العربية، هذا ما أدى الى غزو العراق وتدمير العديد من الدول العربية الشقيقة، وهذا ما يخطط له لسورية ومصر حالياً من خلال زعزعة الاستقرار وخلق مناخ يسوده التوتر والاحتقان ويشجع على إثارة القلاقل والاضطراب، واللعب على أوتار الخلافات العربية والاثنية وتصعيدها والعمل على تحويلها الى صراعات ملتهبة ومستمرة تهدد البلاد العربية وسيادتها، بالطبع المستفيد الأول والأخير من هذه الصراعات الدائرة هي إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، لأن الصراع المفترض أن يكون صراعا عربيا صهيونيا، تحول الى صراعات داخلية في الأقطار العربية.
وفي هذا السياق ترى إسرائيل أن عودة الحياة الطبيعية للعلاقات السورية المصرية بكل وديتها وحرارتها مسألة مثيرة للقلق، ومثيرة للفزع، خوفاً من حدوث عملية انتقال متدرجة لمصر بالمعنى السياسي والتاريخي من موقع الى موقع معاكس تماماً، وهو ما يترتب على إسرائيل إعادة بناء فلسفتها الأمنية والعسكرية وإعادة بناء الاستراتيجية العسكرية على أساس العودة للحالة التي كانت سائدة قبل عام 1979.
إن استمرار الدم في كل من سورية ومصر مصلحة أمريكية إسرائيلية، تهدف الى إلغاء دورهما في الصراع العربي الصهيوني، حتى ينتج مشروع الشرق الأوسط الكبير ضد الوجود العربي، وعدم تحقيق نهضة وتطور بين البلدين والقضاء على فكرة القومية العربية وإبقاء الدولتين خاضعتين للهيمنة الصهيوأمريكية.
فبقدر ما نجحت خطط الصهيوأمريكية في جعل البلدان العربية والإسلامية بؤرة مخربة تصلح عشاُ للدبابير لتجمع الإرهابيين، بقدر ما فشلت في القضاء على الفكر القومي العربي رغم محاصرته، فقد ظل صامداً أمام مشروعات التهويد والتأسلم والاستسلام، لأن سورية ومصر تدرك جيداً خطورة الغوص الأمريكي في اللعب على التناقضات الداخلية من خلال دعم الفوضى الحقيقة في المنطقة العربية في سياق مخطط صهيوني لتكريس الخلافات وإنشاء تكتلات دينية مختلفة.
وبالتالي فإن سورية ومصر هما الأكثر مسؤولية في إيقاظ الصحوة القومية المنشودة والحفاظ على ثوابتهما بحكم دورهما التاريخي في صياغة الحل العربي على مدى الحقب والأزمان، وأنهما الأكثر قدرة وجرأة على جذب بل دفع الآخرين نحو الطريق، بعد أن أثبت تاريخ العرب الطويل بأن محور القاهرة دمشق كان وما زال هو الفاعل المؤثر. كما يقع على عاتق مصر أمام الوضع المؤلم في سورية أن تلعب دورها السياسي للتوصل الى حل حقيقي لحقن الدماء، لأنها المؤهلة للقيام بهذا الدور، ومصر بالفعل سعت الى تحقيق مبادرة رباعية، لكن لم يكتب لها النجاح، بسبب الاطراف الثلاثة الأخرى تركيا والسعودية وايران، التي لم ترحب بالتعاون فيما بينهما.
وبذلك يعتبر الكيان الصهيوني أكبر تحد استراتيجي يواجه الأمة العربية وعلى الأخص سورية ومصر، وأخطر تهديد لأمنهما القومي، فهو ليس اغتصاباً للوطن، بل هو آداة تقطيع أوصال الوطن العربي، وتخريب مستمر بكل طموحاته القومية وتدمير برامج التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية، فهو وجود يناقض الوجود القومي للامة العربية، لأنه يسعى الى إفناء مقومات الوجود العربي من خلال التوسع والعدوانية وامتلاكها للقدرة النووية والسيطرة الكاملة على المنطقة العربية، وذلك حسب استراتيجيتها التي وضعها قادتها لتكون امبراطورية جديدة في المنطقة، وتصبح كل هذه المناطق سوقاً اقتصادياً لإسرائيل تخدم مصالحها ومصالح حلفائها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن الوجود الإسرائيلي يشكل تهديداً للوجود العربي لأن كل مشاكل هذه الأمة أساساً تنبع من مشكله هذا الوجود، لأنه يعني استمرار التمزق العربي والإخلال بالأمن فيها، لأن تحقيق الأمن الإسرائيلي وفقاً للمنطلقات الصهيونية لا يمكن تحقيقه إلا على حساب الأمن القومي العربية.
وأخيراً يمكن القول أن عودة العلاقات الى مسارها الطبيعي بين سورية ومصر، وإعادة بناء العقد التحالفي السوري المصري هو الذي يستطيع الآن أن يقيم توازناً جديداً في المنطقة، وأن يحدث تغييراً مهماً في معادلة إدارة الصراعات، وإن الخلاف في الرأي بين الأشقاء العرب أمر مشروع إلا أن الخطيئة القومية هي أن يتحول الخلاف الى شقاق ثم الى قطيعة مثلما حدث بعد نصر أكتوبر العظيم، وهذا ما نأمل تجنبه في المستقبل، حيث أن الادراك لعناصر الاختلاف في أي علاقة بين دولتين هو بقدر أهمية عناصر الاتفاق، أن تكون العلاقة في النهاية لصالح التضامن العربي والامن القومي خصوصاً.
لكننا على ثقة تامة أن الشعبين السوري والمصري قادران على تجاوز وتخطي أزمتهما ومحنتهما الراهنة، بفضل تماسكهم ووحدتهم الوطنية، لأنهما يدركان جيداً دورهما في المنطقة العربية من خلال عودتهم لتبوئ موقعهم ومكانتهم العروبية والقومية في مواجهة كل المشاريع الامبريالية في المنطقة العربية الرامية الى تجزئة وتقسيم الأقطار العربية وتفتيت وحدة الانسان العربي من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي.
* باحث وأكاديمي سوري