تتمسك التقاليد العربية والتفكير العربي بالنسب، ويجري تحريم أية علاقات جسدية ومعاقبتها بقوة تصل إلى حد الرجم انطلاقاً من كونها إساءة أو تعرضاً لسلامة النسب وصحته.
وفي مقابل ذلك يتم الطعن على الخارج عن التقاليد الاجتماعية أو حتى السياسية بنسبه. فهو بالضرورة غير محفوظ النسب. والمثال الأشهر على ذلك زياد بن أبيه. وكان داهية حاكماً قوياً. يقول تاريخه الشخصي إن أربعة رجال – ربما – تشاركوا أمه التي كانت تعمل بغياً. ولكن ضمن لعبة و قوانين البغاء السائدة آنذاك، وكما يقول المؤرخون، فإن البغيّ التي يصل إليها أفضل الرجال وتقبلهم في خيمتها جميعاً في مجلس واحد أو ليلة واحدة، يكون عليهم أن يقبلوا بنسبتها هي لولدها منهم جميعاً. ولا شك في أن المرأة ستختار أعلاهم منزلة لتنسب الوليد إليه. وهو ما كان من أمر زياد الذي صار يعرف بزياد بن أبي سفيان.
وأيا يكن الواقع فلهذا الأمر مدلولات ثقافية. فالجماعة عادة ترفض الغريب والذي يأتي بأفعال غير مألوفة عندهم أو غير منسوبة إلى أفعال الغير أو السابقين، وترى في فعله شذوذاً. وحتى على المستوى الشعري كان الشاعر يأخذ علمه بالشعر وطرق نظمه ومعانيه من الشعراء السابقين ويتتلمذ عليهم فترة طويلة ويختص برواية أشعارهم إلى أن يستقل ويصبح شاعراً معترفاً به. وإن كان مع ذلك يبقى على طريقة الشعراء الذين تربى عليهم فنياً. ويمكن أن نعود إلى مدرسة الصنعة. وشعراؤها يسمون عبيد الشعر، ويعودون إلى أوس بن حجر الذي تتلمذ عليه زهير بن أبي سلمى وعلى الأخير ابنه كعب بن زهير والحطيئة. وهكذا.. سلسلة تمتاز بأنها تُراجع الشعر وتنقحه وتهتم بالشكل والصورة الشعرية وتحتفظ بالقصيدة حولاً كاملاً تقوم خلاله بتأمل النص إلى أن تفرج عنه وتطلقه إلى القرّاء.
وفي عصرنا الراهن تنشط الأبوة أو النسبة الثقافية مستفيدة من رصيد اجتماعي لا زال ناشطاً. أي من تأييد جمعي. فكل من يأتي بفكر أو ثقافة غير تقليدية ويطرح طروحات مغايرة للمتعارف عليه في مجالات الدين والمرأة والحرية الشخصية والملبس والهيئة يُقال عنه متغرب أو متأثر بالغرب وبالثقافة الاجنبية. وقد كان ذلك مع طه حسين الذي قيل في ما جاء به من مقولة الشك في الشعر الجاهلي ونفيه إنها أفكار المستشرق مركليوث. ونفس الشيء قيل عن نصر حامد أبي زيد وغيره كثر.
وهنا جرى التمييز بين منطقتين؛ العقل والفكر وما يتصل بهما من نصوص مقدسة وشخصيات مقدسة وتراتبية اجتماعية وعادات وتقاليد تحمي تلك التراتبية وتؤكدها. والخيال وما ينطوي عليه من محاولات لإعادة التفكير في كل ذلك ونقده وتنبيه الإنسان للفكاك من أسره. وفي الثانية عمل الكاتب على استثمار وتفعيل والتأكيد على فكرة الانقطاع النَسَبي وأهميته لإقامة عوالم جديدة ومبتكرة يتمتع فيها الإنسان بفرص أكبر للتغيير وللتأثير وللنجاح. ذلك مثلما يحصل في الرواية الرؤيوية أو الميتافيزيقية أو الفلسفية كما يفضل النقاد أن يسموها، كما في ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ. فهي تقوم على سيرة عاشور الذي يُعثر عليه لقيطاً فيُربى في أحضان عائلة فقيرة ليكون إنساناً خارقاً في قوته وفي بصيرته وفي إيمانه الذي يقربه إلى الله لينعم بهاتف يبلغه بأن عليه أن يترك البلدة التي سيحل بها الطاعون وينجو بنفسه وبمن أراد. ولأن أهل البلدة لا يثقون بما يقول ولا يتبعون نصيحته لهم فإنه سيكون الناجي الوحيد (مع إدريس رمز الشيطان وابن أبوي عاشور بالتبني) ليكون عاشور الناجي وليبدأ معه عصر نقي وزاهٍ تتذكره الاجيال اللاحقة بحسرة.
وهناك إشارة إلى أن النَسَبية ممثلة بإدريس ستودي بصاحبها إلى نوع من الفعل المضاد أو المانع لأي تغيير أو تطوير. وهو فعل لا يختلف عن فعل الشيطان في الأساطير وفي الديانات فهو لا يريد أي تغيير ويريد أن يبقي على وضعه. وفي الرواية يقوم إدريس بمضايقة عاشور والتشويش على سيرته وعلى أفعاله. في المقابل فإن سلالة عاشور ممثلة في أحفاده وصولاً إلى آخرهم صاروا يتمسكون بقوة بالتراتبية النَسَبية تمسكاً يزداد قوة مع تراجع أدوارهم في المجتمع ومع تراجع بصيرتهم منتهين مع المجتمع إلى خراب إنساني وإفلاس روحي وثقافي.
يقدم نجيب محفوظ تبريراً برهانه الحكاية على أن الثقافة التي ترفض الخروج أو المغايرة وتحافظ على المعروف والمألوف إنما تضيع على نفسها فرصة التقدم والتحديث الذي لا يأتي من غير بداية جديدة وثورية ولا يربطها رابط النسب بما قبلها.
يقول كونديرا في بداية أساطير كثيرة هناك أحد ما ينقذ طفلاً لقيطاً. ولو لم تخرج ابنة فرعون سلة موسى من الماء لما كان العهد القديم ولما كانت معه حضارتنا (كائن لا تحتمل خفته). فهل هي اشارة إلى انه ما من سبيل إلى أن تكون لنا حضارتنا! هذا على الأقل ما يقوله تاريخنا النَسَبي، ويبرهن عليه بالحكاية نجيب محفوظ.