سينما ومسرح؟

في البدء كانت مصلحة للسينما؛ دائرة حكومية مختصة بالإنتاج والمتابعة السينمائية عراقيا. كانت النواة المفترضة للاتساع بخطوط هذا الإنتاج والرقي به. لتمتزج ـ هذه المصلحة ـ لاحقا، وبصيغة \”الذوبان\”، بمسمى أكبر وهو دائرة السينما والمسرح. تم هذا بجرة قلم قد تأسس على أن كِلا الحقلين الفنيين هما في خدمة الأيدلوجيا الحاكمة لا أكثر. قرار تعسفي، كبقية قرارات دولة البعث، دفع ثمنه أولاد مخلصون لكلا الحقلين.

في كل الأدبيات الإدارية / الفنية في العالم، أولهُ وثالثهُ، من السذاجة بمكان دمج الدفاتر الإدارية للسينما وللمسرح في درج واحد. وذلك بسبب الاختلاف الجذري في السياق التخطيطي ــ الإداري والإنتاجي بينهما. ومن خلال تجربتي الوحيدة في الدائرة المذكورة، عبر مشاركتها في إنتاج فيلمي الروائي الثاني \”كرنتينة\” فاني كنت قد اطلعت، وعن قرب، على كارثية هذا الدمج وعلى استحالة تطور الإنتاج السينمائي في هذا الفضاء الإداري، والذي يقترب في الكثير من مفاصله إلى العبث الصرف، والجهل شبه الكامل بقاموس الإنتاج السينمائي الحديث.

كنت، وأنا أحث الخطى لتنفيذ فيلم \”كرنتينة\” قد وجدت أن الكل داخل أروقة دائرة السينما والمسرح تواقٌ بالكامل لانجاز هذه التجربة على أكمل وجه. لكن، وهذا سؤال مفصلي بالنسبة لي، هل هذه الحماسة، الثقة، سمها ما شئت، كفيلة وحدها بتعبيد الطريق لمنهج متوازن للتخطيط ــ ومن ثم للإنتاج السينمائي؟ هل تكفي النيات الصادقة والإيمان شبه المطلق في وأد الهوة الكبيرة بين المتنفذ الإداري وحركة الإنتاج السينمائي الحديث؟ الخلل هنا ينطلق من ملامح المنصب، لا من يملؤه. كيف لمختص في المسرح مثل الدكتور شفيق المهدي أن يُخطط، والتخطيط هنا مرتبط عضويا بمقدار الخبرة العملية والعلمية للمُخطط، أقول كيف لمسرحي وان كان بوقار الدكتور المهدي، أن يمنهج لحقل لم يمتلك مفاتيحه؟ والكلام بالتأكيد ينطبق هنا على كل من سبق الدكتور المهدي وعلى من لحقهُ، دون إسقاط صفة الاحترام عن أي منهم.

من أهم الإشكالات التي يواجهها \”دمجٌ\” كهذا، هو الهيمنة المسرحية على المفاصل الإدارية، وهي هيمنة شرعية بسبب تعطل الحراك السينمائي منذ أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، كذلك بسبب نفاذ الشخصية المسرحية العراقية ثقافيا واعلاميا، يقابله انحسار كامل للشخصية السينمائية، أحد أهم أسبابه هو الانبطاح شبه الكامل للسينمائي العراقي لسلطة البعث، وهو انبطاح قد سحب عنه بساط الثقة من قبل الشارع الثقافي العراقي وعلى مدى عقود.

ما واجهته شخصيا وأنا أحاول تأثيث الهيكل الإنتاجي للفيلم، هو عُتق السياق الإنتاجي، وهو عُتق مرتبط بمفاهيم قد تشكلت بالضرورة على ضوء ملامح الدمج الإداري الذي هو موضوع مقالنا هذا؛ ثوابت بالية، تتحرك في مستنقع نتن الرائحة، تدور حول مركز واحد \”الدولة تصرف المال! علينا إرضاء الدولة!\” وهذه أخطر لحظة في سلسلة لحظات سينما الأجندات! كنت أردد للكثيرين؛ أغلبهم قد عمل في سينما الثمانينيات؛ نحن لسنا تحت سلطة البعث.. تذكروا.. نحن أحرار! أو هذا ما اعتقدت! وبذات الوقت كنت أراقب نفاذ شخصية المسرحي، على كل مفاصل الدمج، وأحيانا كثيرة كان للمسرحي كلمة الفصل الأخيرة بما هو سينمائي صرف. كما يحدث فيما يسمى اجتماع \”مجلس المديرين\” ذو الغالبية المسرحية.

ضاعت، وتضيع السينما في أروقة المنظومة الإدارية للمسرح، وفي لحظة خلط أوراق ومفاهيم إنتاجية في دائرة قد تأسست لخدمة الحزب الحاكم الأوحد، لا لخدمة اثنين من أهم حقول المعرفة والتنوير؛ السينما والمسرح. ومثلما تم الدمج بجرة قلم غير مكترث للإنسان ولتاريخه، من الممكن أن يفض الدمج بجرة قلم لإنسان يعي الفرق بين هذا وذاك.

إقرأ أيضا