للمرة الثانية، يفجر وزير النفط والمالية وكالة إحسان عبدالجبار، فضيحة مالية من العيار الثقيل، بكشفه عن ضياع 2.5 ملياري دولار، بعد حديث مماثل عن 800 مليون دولار، وهو ما عزاه مختصون إلى قيام “شركات وهمية” بعمليات تهريب، بدءا من قسم الضريبة في مصرف الرافدين، مرورا بمزاد العملة، وعلى مدى أشهر عدة، في ظل آليات متخلفة تعتمدها مؤسسات الدولة، مع فقدان وجود مسوغ قانوني يمنح القضاء حق إصدار منع السفر بحق المتورطين، وتوعد نيابي بحراك يكشف مزيدا من الفضائح.
ويقول الخبير القانوني سالم حواس خلال حديث لـ”العالم الجديد”، إن “الادعاء العام يتحرك على الكثير من القضايا التي تشغل الرأي العام، لكن هذا التحرك في بعض الأحيان يكون غير معلن لسرية التحقيقات والإجراءات القضائية، وهذا الأمر حصل في الكثير من القضايا”.
يشار إلى أن وزير النفط ووزير المالية بالوكالة إحسان عبدالجبار، قبل إعفائه من منصبه الثاني، كشف أمس الأول، خلال إعلانه قبول استقالته عن سرقة 2.5 مليار دولار (3.7 ترليون دينار) من أموال الضريبة في مصرف الرافدين الحكومي، وأكد أن “نتائج التحقيق الذي وجهنا به بعد تكليفنا بالوزارة، والإثباتات الرسمية الخاصة بالسرقة، تم تسليمها من وزارة المالية الى الجهات المتخصصة، ومنها اللجنة المالية البرلمانية التي طالبتنا بذلك رسميا وإعلاميا”.
ويبين حواس، أنه “لم يرد نص صريح في قانون الأصول الجزائية يتيح لقاضي التحقيق إصدار قرار منع سفر إلا في حالة هروب المتهم بجناية عقوبتها الإعدام وفق المادة 143 من هذا القانون والذي يمكن الاستنتاج منه أن منع السفر يمكن أن يصدر في القضايا الخطيرة فقط، لأن حق السفر منصوص عليه في الدستور ولا يقيد إلا بقانون وفق مبدأ (لا عقوبة إلا بنص)، في حين جاء النص واضحا في قانون المرافعات لمنع سفر المدين في المادة 142 مرافعات”.
ويشدد على أن “قانون الأصول الجزائية يحتاج إلى تعديل ولمسات في هذا الموضوع المهم والخطير، خصوصا فيما يتعلق بالمتهمين من أصحاب الجنسية المزدوجة، في ظل فقدان الآليات المتعلقة بقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وضرورة إصدار أوامر من القضاء بمنع سفر المتورطين في ذلك من أعضاء الحكومة التنفيذية”.
ويضيف الخبير القانوني، أنه “ليس هناك صلاحية وإمكانية لرئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني أو حتى رئيس الوزراء الحالي بمنع سفر الفاسدين في الحكومة الحالية أو غيرها، لأن ذلك ليس من اختصاصه ولا صلاحياته القانونية والدستورية، حيث أن ذلك منوط بالقضاء حصرا بعد تقديم الشكاوى والدعاوى الأصولية وطلب منع سفر المتورطين”.
وكان عبدالجبار، قد أثار الجدل بتصريح صحفي في أيلول سبتمبر الماضي، حول فقدان ما لايقل عن 800 مليون دولار في حساب معين بمصرف الرافدين تم سحبها خلافا للقانون، معبرا عن صدمته بعد 10 ايام من تولي الوزارة بالوكالة.
وأثير الجدل في آب أغسطس الماضي، حول حكم لمحكمة عراقية لصالح شركة قطاع خاص بتعويض قدره نحو 600 مليون دولار، عقب معلومات عن الشركة التي بدا رأس مالها صغيرا للغاية مقابل التعويض، وذلك قبل أن تعلن الشركة عن تنازلها عن مبلغ التعويض.
إلى ذلك، يفيد الخبير المالي، مصطفى أكرم حنتوش خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “عملية السرقة الكبيرة أمر متوقع وليس مفاجئا أو استثنائيا بالنسبة لنا، ولو تم فتح ملف آخر غير ملف المصارف الحكومية والأمانات، كملف المشاريع الاستثمارية التي تطلق لصالحها تخصيصات من وزارة التخطيط، سيصل حجم المبلغ الوهمي أو المسروق إلى 100 مليار دولار، لأن هذه المشاريع وهمية ووزارة التخطيط تغطي عليها عن طريق التلكؤ السنوي”.
ويردف حنتوش، أن “كيفية سرقة هذا المبلغ وغيره من المبالغ تتعلق بآليات فنية وعامة، تكمن في أن القوانين العراقية كقانون المصارف وقانون البنك المركزي وقانون هيئة الرقابة المالية وقانون الاستثمار، أصبحت خارج التغطية، كونها قوانين تشرعن الفساد، وهذا الأمر معروف لدى الجميع”.
ويشير إلى أن “هناك آليات فنية تساهم أيضا في السرقات، ومثال على ذلك هو أن هيئة الضرائب والجمارك تتسلم الأموال بشكل يدوي، وهي أموال طائلة تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، وتكون مكدسة أمام الموظفين، ولذلك تتم سرقتها”.
ويؤكد حنتوش، أن “العراق يحتاج إلى تعديل الكثير من القوانين، إضافة إلى تشريع قوانين جديدة تكون صارمة في قضية التعامل المالي في الهيئات الحكومية وكافة دوائر الدولة، ومن دون ذلك ستبقى السرقات قائمة، خصوصا أن بعض فقرات القوانين الحالية تشرع الفساد ولا تحاربه”.
وتوالت المعلومات حول هذه القضية الكبيرة، وتم الكشف عن العديد من الخفايا، منها أسماء الشركات التي صرفت لها الصكوك بالمبلغ وهي 5 شركات: القانت، الحوت الأحدب، رياح بغداد، المبدعون وبادية المساء، كما تم الكشف بالوثائق، عن تأسيس تلك الشركات في العام الماضي، وبرأس مال قدره مليون دينار فقط (نحو 700 دولار)، ما يشير إلى أن سبب تأسيسها هو الحصول على تلك البالغ.
يذكر أن رئاسة محكمة استئناف بغداد/ الكرخ، ووفقا لوثيقة نشرت الآن وهي بتاريخ 21 آب أغسطس الماضي، أبلغت مكتب وزير المالية بإيقاف صرف الأمانات الجمركية والضريبية، لحين انتهاء التحقيقات والتدقيق الأصولي بالقضية.
وعلى الصعيد ذاته، يذكر الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “الأمانات التي سرقت تعود لشركات لديها تعاقدات نفطية، وضخامة هذا المبلغ يعود لضخامة العقود التي أبرمتها هذه الشركات، وهي ليس لها أي علاقة بأي عمل نفطي أو غيره، والطامة الكبرى أنها مسجلة برأس مال قدره مليون دينار عراقي فقط، بينما هي تسحب أكثر من ترليون دينار”.
ويضيف المشهداني، أن “مبالغ الأمانات في القانون العراقي تعود إلى إيرادات الدولة إذا مضت خمس سنوات من دون المطالبة بها، ولذا فإن قضية السرقة كانت مرتبة ومعدا لها بشكل جيد، وهذا الأمر تم بتواطؤ بين متنفذين في الهيئة العامة للضرائب ومصرف الرافدين وجهات سياسية متنفذة”، مشيرا إلى أن “هذا الموضوع كبير جدا، خصوصا أن هذه الشركات مؤسسة بشكل حديث، وعمليات السرقة تمت بعد فترة قصيرة من افتتاحها”.
ويلفت إلى أن “المبلغ المسروق يعادل الإيرادات الضريبة لعشر سنوات في العراق، وهو يشكل تقريبا ربع موازنة الأردن، ولذا فإن هناك رؤوسا كبيرة سوف يطاح بها خلال التحقيقات التي تجري بهذه القضية، خصوصا بعد أن أصبحت قضية رأي عام”.
ويبين الخبير الاقتصادي، أن “هذا الأمر سوف يشكل خسارة كبيرة لخزينة الدولة العراقية، إذ أن الشركات التي أودعت مبلغ الأمانات سوف تطالب بالمبالغ التي تعود لها، وهنا سوف تضطر الخزينة العامة لدفعها من إيرادات هيئة الضرائب أو مصرف الرافدين، ولا علاقة لهذه الشركات بمن سرق الأموال، وهذا يعني خسارة العراق لهذا المبلغ للمرة الثانية، بمعنى أن العراق خسر بهذه السرقة أكثر من 7 ترليونات دينار، وهذا سيكون له تأثير على الموازنة العامة للدولة العراقية خلال السنوات المقبلة”.
ويواصل المشهداني “نعتقد أن هذه الأموال تم تهريبها إلى خارج العراق عبر جهات وشخصيات متنفذة وبارزة، واستردادها يحتاج إلى إجراءات قضائية طويلة جدا، وعملية التهريب تمت عبر مصارف أهلية تابعة لهذه الجهات والشخصيات”.
ويلفت إلى أنه “خلال الأشهر الماضية كان هناك ارتفاع كبير في مبيعات مزاد بيع العملة للبنك المركزي، وهذا المزاد كان أحد أبواب تهريب المبلغ المسروق إلى خارج العراق، وهناك مصارف أهلية متورطة بهذا الملف، خصوصا أن هذا المبلغ ضخم وتم تهريبه عبر مجموعة من المصارف بواسطة مبيعات مزاد بيع العملة للبنك المركزي، وربما تم تهريب هذا المبلغ على عدة مراحل بنحو عمليات تحويل لثمانية أشهر، نظرا لحجمه الهائل”.
ويستطرد المشهداني، أنه “خلال المرحلة المقبلة سوف يتم كشف المزيد من قضايا الفساد الكبيرة والخطيرة، خصوصا أن هكذا ملفات دائما ما تكشف مع نهاية كل حكومة وبداية كل حكومة جديدة، وهذا الأمر سوف يطيح برؤوس كبيرة على مختلف المستويات”.
وكان مصرف الرافدين أصدر بيانا، قال فيه إنه لا علاقة له بأية عمليات تلاعب أو سرقة يجري الحديث عنها، وأن مهمته كانت قد انحصرت في صرف صكوك الهيئة العامة للضرائب من فروعه بعد التأكد من صحة صدورها بكتب رسمية بين المصرف والهيئة، وأن ما يجري الحديث عنه في الآونة الأخيرة هو موضوع يتعلق بالهيئة العامة للضرائب وحساباتها المصرفية.
وكانت هيئة النزاهة أكدت أمس الأحد، أن القضية تم التحقيق فيها، وهي الآن معروضة أمام القضاء، وهي سترافق المعلومات التي تضمنها كتاب وزارة المالية بعد تنظيمها وفق محاضر مع الأوراق التحقيقية وتودعها لدى القضاء، ليقوم الأخير بإصدار القرارات المناسبة بحق المقصرين، مؤكدة أن القضاء سبق أن أصدر أوامر استقدام بحق مسؤولين كبار في وزارة المالية بشأن الثغرات التي أفضت إلى حصول هذا الخرق الكبير والتجاوز الفظيع على المال العام.
من جهته، يوضح عضو لجنة النزاهة البرلمانية هادي السلامي خلال حديث لـ”العالم الجديد”، أن “كشف هذه الفضيحة سوف يدفعنا إلى فتح الكثير من الملفات التي تحوم حولها الشبهات، ونحن في البرلمان سيكون لنا حراك لكشف المزيد من قضايا الفساد المتورطة فيها شخصيات حكومية وجهات سياسية متنفذة”.
ويتابع السلامي، أن “هناك تخوفا لدى الأوساط البرلمانية والشعبية من هروب كبار المسؤولين المتورطين بهذا الملف، ولذا كان لنا تحرك على الجهات القضائية المتخصصة والادعاء العام لإصدار قرارات بمنع السفر بحق أي اسم يتم ذكره في التحقيقات التي تجرى حاليا من جهات قضائية مختلفة”.
ويعتبر أن “هذه الفضيحة كشفت زيف ادعاء الحكومة العراقية بأنها حاربت الفساد والفاسدين، وهذا يدل على أن كل الإجراءات الحكومية كانت إعلامية ولا يوجد شيء ملموس على الأرض، وفي الأيام المقبلة ربما يتم كشف ملفات فساد أكبر وأخطر”.
يذكر أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، أكد أمس الأحد، أن قضية الأموال المسحوبة من هيئة الضرائب في وزارة المالية تدعو إلى الوقوف عند المناخات التي ساعدت في استشراء الفساد في مفاصل تلك الهيئة، وشاركت في توفير غطاء التجاوز على المال العام، وهي تتجاوز عمر هذه الحكومة، مبينا أن القضاء أسرع بإصدار أوامر إيقاف صرف المبالغ، وإصدار مذكرات قبض بحق المشتبه بهم؛ وقد أدت إجراءات الحكومة إلى منع استنزاف أموال أخرى من الهيئة ومن أماكن ثانية، على حد زعمه.
يشار إلى أن لجنة النزاهة النيابية، قررت استدعاء وزير المالية وكالة المستقيل إحسان عبد الجبار ومسؤولين سابقين وحاليين واستضافة الجهات المعنية للتحقيق في هذه السرقة.