لا أكتب مقدمة لدرس في التفريق بين الدولة وبين السلطة، بل أحاول أن أبحث عن شعب تدفق بإخلاص على صناديق الانتخاب، رغم العنف اليومي الذي يعيشه الناس منذ سقوط صدام الذي كان هو الدولة وهو السلطة.
بعد أن سقط صدام، سقطت معه الدولة، فإن أبقى بريمر على جيش البعث المؤدلج، فلن يأمن فرسان النظام الجديد على حياتهم، وإن أرسل بريمر الضباط والجنرالات المائة إلى بيوتهم، فلن تقعد الدنيا بعد أن قامت، وسيبقى الحريق مشتعلا، والنزيف مستمرا.
وحين أصبح الربيع العربي محرقة للشعوب، لم يبق للصحفي -أيّا كان- من وظيفة سوى كتابة مقالات رأي، فالحقيقة متوارية، أو هي غائبة، والشعوب إذ تتوخى الحقائق لن تجدها حتما على شاشات الفضائيات، وفي فم مراسليها اللاهثين في الميادين، بل عليها أن تبحث عن الحقائق في إشارات وأسئلة عابرة، مرت على ألسنة الساسة بسرعة غير ملحوظة.
فقد قال صدام في محاكمته: \”إذا كان الأمريكان يحاكمون صدام، فأنتم سوف تحاكمكم شعوبكم\”.
بعد تلك المقولة التي تبدو الآن نبوءة، رأينا الشعوب تقاضي الحكام، فطاردت بن علي حتى لجأ إلى السعودية، وأمسكت بالقذافي وعرته أمام الكاميرات ووضعت في مؤخرته قضيبا معدنيا، وطردت مبارك ووضعته في السجن لتشحطه كل يوم إلى المحكمة وهو العجوز الثمانيني. ونسفت مسجد الصلاة الرئاسي لعلي عبد الله صالح وجعلته يتخلى عن السلطة وهو نصف معاق. وما زالت تطارد بشار الأسد حتى حاصرته في منطقة قصره لا يبرحها . واحترقت سوريا بنار الأسد ونار \”الشعب\”.
من يثور على من؟
ولكن، هل هي الشعوب حقا التي فعلت ذلك، أم أن سلطات ما، هي التي فعلت وتفعل كل ذلك؟ فالشعوب كما يظهر عاجزة مشلولة، ففي مصر الشعب حائر في منطقة وسطى بين الإخوان المسلمين، وبين العلمانيين والليبراليين، يوما يحتشد هنا، ويوما هناك.
وفي سوريا، الشعب هو من يسكن دول الجوار في العراق وتركيا ولبنان والأردن وفي مصر، فيما الدولة تتأرجح بين سلطة الأسد وسلطة القوى الإسلامية التي لا يعرفها أحد، فيما يبحث كرد سوريا عن فرصتهم التاريخية ليخرجوا من المولد بحمص! وبقوة المغناطيس التاريخي انتقل الخراب السوري الغامض إلى لبنان، فضاع الشعب وغابت الدولة وحارت السلطة من تكون وكيف تكون.
في اليمن غاب الشعب بعد صالح ولم يظهر، وكذلك في ليبيا، وفي تونس، والسلطة ما برحت طيرا يحلق ولا يحط في كل هذه الدول. وفي العراق -وهو المبدأ والمنتهى- بات الشعب شيعيا وسنيا وكرديا ولا يتفق على شيء قط.
القذافي في أيامه الأخيرة أطلق سؤالا بدا مضحكا في حينها، وهو يخاطب من بات اسمهم ثوارا، قائلا: \”من أنتم؟\”.
السؤال اليوم أضحى نبوءة: من يقوم بكل هذا الذي نراه، الشعوب أم السلطات الغامضة، وقد غابت الدول؟
ومن يقود العراق مذ سقط صدام وانهارت الدولة ولم تقم، وتفتت الشعب ولم يعد عراقيا؟ ومن هي السلطة الغامضة في العراق؟
جواب هذا السؤال يحتاج إلى أكثر من عموميات الكلام الجاهز: (الأحزاب الإسلامية)، فهذا الجواب يبدو مضحكا إذا تذكرنا أنّ 8 ملايين عراقي قد انتخبهم وما زال.