يمر العراق اليوم بانعطاف سياسي مهم قد لا ندرك أهميته بشكل كامل قبل أن يمضي عليه زمن لنتعرف على نتائجه ولو الأولية منها. إنه حدث سياسي كبير أن يغير العراق رئاساته الثلاث مرة واحدة, فقد تمكن القائمون على العملية السياسية ونتيجة ضغط المرجعية وما صاحبه من ضغط محلي ودولي, أن يغيروا رئاسات الجمهورية والبرلمان والوزراء. أما الرئاسة الرابعة (رئاسة السلطة القضائية) فنعتقد أنها في طريقها للتغيير الحتمي لأنها كانت مجرد أداة طيعة بيد السلطة التنفيذية.
منذ اليوم الذي خرجت فيه القوات الأمريكية, بدأت الإجراءات الحكومية تسير بالعراق إلى مصير أسود على كل الصعد, حتى وصلنا حافة الانهيار أو الانهيار غير المعلن. وجاءت عصابة بسيطة اسمها (داعش) لتعلن هذا الانهيار في صبيحة 10 حزيران 2014 من خلال هجوم استمر لساعات قليلة سيطرت فيه على أكثر من ثلث البلاد، واستولت على أموال طائلة ومعدات 6 فرق عسكرية، وأحدثت شرخا كبيرا في النسيج الاجتماعي العراقي من خلال النزوح والهجرة التي طالت جميع فئات المجتمع وتلاوينه, لنكتشف أننا اليوم في زمن جديد, في ساعة صفر أخرى, أو في بداية على خط شروع جديد لبناء الدولة. فطالما تمنى البعض أن يعاد احتلال العراق, ليحظى الشعب بفرصة لبداية جديدة بعد أن يئس من التصحيح. والكلام عن الأسباب: طغيان الحكومة، والطائفية، والفساد، والمليشيات، كثير ومعروف وليس لنا رغبة بالعودة له.
كتبنا قبل شهرين (دعوة المالكي للتنحي)، و(حصتنا في حكومة المحاصصة الجديدة)، و(الخروج من الأزمة الراهنة والقضاء على الإرهاب)، و(تحية لمبادرة النجيفي) لإعلانه عدم ترشحه لرئاسة مجلس النواب متمنين فيها موقفا مشابها من المالكي, وسلسلة من مقالات أخرى في نفس السياق, لكن العدو والصديق استهجن علينا آراءنا, لأن شراسة الحكومة في حينها وصلت حدودها القصوى, فمنعت وسائل إعلام كثيرة ومواقع التواصل الاجتماعي, وأرادت تكميم الأفواه, وإلغاء حاستي السمع والبصر، ومارست الاستبداد والخطف والتهديد والاعتقالات والإقصاء والإبعاد والرشوة السياسية, في ظل أوضاع أمنية واقتصادية وخدمية بائسة, تاركة المواطن في حيرة من أمره, أيدافع عن نفسه من هجمة محتملة لداعش, أو من سطو مليشياوي أو من عمليات دهم سلطوية؟! هذا هو حال الانهيار التام الذي تمنينا فيه (إعادة احتلال العراق).
إنه ليس تبجحا أو فخرا أن تأتي النتائج اليوم, مثلما توقعناها قبل شهرين في سلسلة من المقالات منشورة بتواريخها في مواقع إعلامية مختلفة, بل إن ما كتبناه كان لا يتعدى كونه أمنيات كان يمكن أن لا تتحقق, وإن تحققت اليوم مقدماتها, فذلك يعني أن الهاجس بتلك الأماني (هاجس الخوف من حكومة فاشلة وفي طور التحول إلى دكتاتورية جديدة, وضرورة التخلص منها بالوقت المناسب) كان هاجسا مشتركا لشريحة واسعة من أبناء هذا الوطن. وما يفرحنا أن هذا الهاجس كان لدى الطبقة السياسية أيضا، وخصوصا لدى زعماء كثر من حزب الدعوة ودولة القانون, ونستطيع أن نتخيل المأزق الذي كانوا فيه وصعوبة لحظة الانعتاق التي كلف فيها العبادي بمهمة تشكيل الحكومة الجديدة.
تكثر اليوم عملية تبادل الآراء حول شكل الحكومة: حكومة تكنوقراط, حكومة كفاءات, حكومة رشيقة, مختلطة من خبرة وشباب. كما أن رغبة عارمة بترشيق عدد أعضائها يصطدم برغبة الحصول على امتيازاتها الواسعة تحت لافتة توسيعها لتضم الجميع… وسيكثر الحديث، وسيرفع الخجل يوما بعد يوم بمطالبات عالية الصوت بمغانم اكبر.
رأينا في الحكومة الجديدة هو التالي:
– إذا سلمنا بالأمر ان الحكومة المنتهية مدتها حكومة فاشلة, فالأولى أن لا يستوزر منها وزير في الحكومة الجديدة, ما عدى حسين الشهرستاني, إذ أنه وراء الميزانيات العالية (مئات المليارات) التي بددها الآخرون طوال الأعوام الثمانية المنصرمة، وكذلك هوشيار زيباري لأدائه المميز.
– لن تغادر المحاصصة الحكومة المقبلة, وسيتم التركيز في نتائج الانتخابات (التافهة) في حساب الحصص الوزارية, لا بأس في ذلك, لكن يجب أن تكون حكومة أقطاب سياسية, لأن أزمتنا الحقيقية هي أزمة سياسية, ولا معنى لوجود كفاءات وتكنوقراط مسلوبي الإرادة, أو أن إراداتهم السياسية تملى عليهم من رؤساء الكتل والزعماء السياسيين.
الأجدى أن تتكون الحكومة من الزعماء أنفسهم أو أقوياء منتدبين من الزعماء السياسيين. بمعنى (وهي أمنية أيضا) أن يكون علاوي والشهرستاني والجلبي ومحمود عثمان والنجيفي ويونادم كنا وبرهم صالح ونشيروان مصطفى وزيباري وإياد السامرائي وفيان دخيل وصولاغ والمشهداني وضياء الأسدي وجواد الجبوري وأحمد خلف الدليمي, وإنعام العبايجي, وغيرهم من قادة الصف الأول والثاني وزراء في الحكومة الجديدة. إن حكومة من هذا النوع لن تكون بحاجة إلى نائب رئيس وزراء, ولن يقوى فيها طرف على آخر, ولن يتمكن رئيسها أو أي وزير فيها بتمرير أجندته على الآخرين. حكومة من هذا النوع سيحترمها الشعب ودول الجوار والمحيط العربي والإقليمي والمجتمع الدولي. إنها كما أشار علاوي (حكومة أقطاب).
– الوزارات في الحكومة الجديدة, يجب أن تكون قليلة العدد: الدفاع, الداخلية, الخارجية, المالية, التخطيط, العدل, العمل والشؤون الاجتماعية (تدمج معها الهجرة وحقوق الإنسان والمرأة), التربية والتعليم العالي (وتدمج معهما العلوم والتكنولوجيا), (الزراعة والري), الطاقة (النفط والكهرباء), (الصحة والبيئة), (الصناعة والتجارة), (الثقافة والرياضة), (النقل والاتصالات), (البلديات والإسكان).
– الأمنية في حكومة رشيقة قد تصطدم برغبة البعض العارمة بالحصول على اكبر قدر من الوزارات تحت لافتة توسعة الحكومة بغية مشاركة الجميع. هذا الإشكال يمكن أن يحل باعتماد وكالات الوزارات والهيئات المستقلة وبعض المديريات العامة المهمة كحصص مثل الوزارات ولكن بنقاط مفاضلة اقل. بمعنى أن توزع المناصب كنسب وليس كأرقام. مع شرط حاسم هو نوعية الاختيار.
– أثبتت السنوات المنصرمة أن البرلمان أيضا بحاجة ماسة إلى سياسيين من الطراز الأول يمنحونه هيبة الصراع السياسي المتزن, كالأديب والعامري والمطلك وحسن الشمري والمساري وعدنان الجنابي وخلف عبد الصمد ومحمد السوداني والبياتي والأعرجي والآلوسي وفائق الشيخ علي وآخرين, ونأسف أننا افتقدنا صباح الساعدي ومها الدوري ووليد الحلي والهنداوي وناجحة عبد الأمير.
– وعندما يبقى بارزاني والحكيم والصدر والجعفري وبعض رجال دين وشيوخ كصمامات أمان للعملية السياسية نكون جميعا في مأمن من خراب آخر. وقريبا لنا وقفة من أمنياتنا لمهام الحكومة المقبلة، وأهمها, أن لا تأتي فقط بوزراء جدد بل أن تقصي وتبعد رعيل المعششين في العتمة من وكلاء ومدراء ومستشارين وناطقين في كل زوايا الوزارات فهم أساس الخراب. ونتمنى أن تبدأ الحكومة بأول يوم لها، ومباشرة بعد أداء اليمين, برفع السيطرات من الشوارع الداخلية والخارجية, وإلغاء هيئة الإعلام وتحديدا غلق قناة العراقية وتسريح كل العاملين فيها.
* حسين الزورائي: كاتب عراقي