صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

صرخة الانتحار في قصائد الشاعر عزام الشمري

 وجهٌ ملتف بالصقيع، كأنه خرج للتو من ثلاجة المكتئبين، مُظهِرًا ملامح أنهكتها الصراعات النفسية والفلسفية العقيمة، يُطوّقُ تلك الملامح إطار معدني يعكس غضبًا نيتشويًا رهيبًا، وفوق رأسه من بعيد يتراءى لك تاجٌ يحمل أعمدته كافكا وإميل سيوران وألبير كامو كآباء حنونين للبؤس، إن لم يكونوا حراسًا له. خلف نظراته المثلمة تتوارى صيدنايا العذابات السوداء وجحيم من الأرق المدقع. أما يداه، فتصهيل مع إيقاع ألم القصيدة، وكأنها رد فعل لا إرادي هروبًا من هستيريا التفكير المفرط!

بين أبيات قصائده، يمارس طقسًا بشريًا بدائيًا، مطلقًا بين كل بيت وآخر تنهيدات مدوية تدخل المتلقي في تراجيديا عميقة، وتنتشله إلى حالة من الارتقاء الروحي والانسجام غير المعهود، مشهده وهو يرتقي المنصة لا يبدو مشهدًا اعتياديًا بصفته شاعرًا، بل ينتقل منها إلى أخرى كجريح يبحث عن مرفأ جديد أو فيلسوفا حاملاً معه أسئلة البؤس والألم والمعاناة، ليعيد طرحها مجددًا في أذهان الألفية التي اغتصبها الحزن.

صورُه الشعرية وموضوعاته تتأرجح بين فلسفة الوجود والعبث، لتصيغ هذيانًا أكاديميًا ناتجًا عن حمى هموم الأفراد وصراعاتهم مع الألم، الخذلان، القدر، والإحباط والفشل، وغيرها من المشاعر الحقيقية المدفونة، معبرًا عنها بدقة جراحية فذة، ينقل ما يصعب على البؤساء حتى فهمه من خنجات إلى عبارات عذبة تشخص الحالات الشعورية والمزاجية التي يمرون بها.

إنتاجه الأدبي مزيج متداخل من الأحاسيس العاطفية والتساؤلات الفلسفية محدثًا مزيجًا من الارباك النفسي والفكري لدى المستمع، لهذا تراهم غالبًا ما يستمعون إليه بخشوع وعزلة برفقة كأس خمر أو كوب شاي أو سيجارة، فالأفراد وحدهم لا يقوون على قصائد عزام أبدًا، وهو ما جعل من إنتاجه يتجاوز التعبير العاطفي.

قد أكون هنا قد بالغت في الإعجاب، ولكن من يستهويهم الأدب السوداوي، ومن خاضوا معارك قاسية مع الاكتئاب، سيدركون أن نصوص الشاعر عزام الشمري تستحق هذا التقدير وأكثر، كونها مادة شهية للتفكيك سواء من الناحية الفلسفية أو الأدبية، حيث إن توظيف عزام لفكرة الانتحار في قصائده لا يعد مجرد انتاج ابداعي، بل هو انعكاس للوضع النفسي والاجتماعي في المجتمع العراقي الذي شهد في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة في حالات الانتحار، حيث سجلت التقارير الأمنية حوالي 1100 حالة انتحار في عام 2022، و1300 حالة في عام 2023.

بينما اشارت تقارير أخرى الى أن واحدًا من بين كل أربعة عراقيين يعاني من هشاشة نفسية، في حين أن العراق يعاني من نقص كبير في أعداد الأطباء النفسيين مقارنة بالدول الأخرى، ففي العراق يوجد ثلاثة أطباء نفسيين لكل مليون شخص، بينما في فرنسا مثلا، يصل العدد إلى 209 أطباء لكل مليون.

السياق المجتمعي

على الرغم من أن ملامح الحزن في الشخصية العراقية ليست وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها إلى ما قبل الميلاد كما مجدتها ملحمة كلكامش، حيث أصبح الحزن جزءًا من الهوية الثقافية المتراكمة عبر العصور، إلا أن دخول العراق في مرحلة ما بعد 2003 إثر الاحتلال الأمريكي، الذي خلف الفوضى والانهيار الاقتصادي والسياسي، بالإضافة إلى الصراعات الطائفية، أثر عميقًا على نفسية المجتمع حيث فقد الكثير من العراقيين شعورهم بالأمان النفسي وأصبح المستقبل بالنسبة اليهم غامضًا، مما زاد من مشاعر الاغتراب والانفصال، وتفككت العلاقات الاجتماعية التي كانت مصدرًا للدعم النفسي.

إلى جانب ذلك فاقمت الأزمات الاقتصادية العبء بشكل كبير، حيث أدى الانهيار الاقتصادي إلى تفشي البطالة واحتلال العراق المركز الثالث عالميًا بنسبة 15.55%، مما أسهم في امتداد آثارها العميقة على الصحة النفسية للأفراد في ظل غياب العدالة والسياسات التنموية الفعالة وتزايد الحرمان الاجتماعي.

كما ساهمت التحولات الاجتماعية بين قيم الريف والمدينة وأنماط التدين في إرباك هوية الفرد والأسرة، مما خلف تناقضات واضحة أثرت على العلاقات عامة والعاطفية خاصة، وأدت لصعوبات في التكيف وبناء علاقات مستقرة هذه العوامل وضعت العراق ضمن أكثر الشعوب توترًا وحزنًا لخمسة أعوام متتالية بحسب تقرير مؤسسة غالوب العالمي للمشاعر لعام 2020 والذي أشار ايضاً الى أن 51% من المشاركين يعانون من التوتر والغضب والحزن والقلق.

السياق الثقافي

خلف دخول العولمة المتسارع أزمة في هوية الأفراد في المجتمع العراقي، حيث وجدوا أنفسهم بين قيمهم السائدة وبين القيم التي حملتها العولمة، مما جعلهم في حالة من التشويش والارتباك في التكيف مع هذه المتغيرات، يحدث هذا في ظل تصاعد تأثير فلسفة ما بعد الحداثة التي تقوم على التشكيك في السرديات الكبرى وتقليص أهمية المعايير الثابتة في المجتمع، مما أدى إلى ترسيخ القيم المادية والاستهلاكية كمعايير للنجاح والسعادة تزامن هذا مع تصاعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، التي لعبت دورًا كبيرًا في تعميق هذه الأزمة النفسية والوجودية حيث تعرض هذه المواقع أنماط حياة مثالية يصعب الوصول إليها خاصة من قبل مشاهير وسائل التواصل أو الطبقات المرفهة من أبناء المسؤولين في الحكومة، هذه الأنماط المثالية زادت من الفجوة بين الواقع والطموحات لدى الشباب العراقي، الذين يشعرون بأنهم غير قادرين على تحقيق هذه الصور المادية للنجاح يأتي ذلك في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وبالتالي زاد من شعورهم بالحرمان والإحباط وازداد تساءلهم عن المعنى والغاية في الحياة.

إن هذا التداخل بين العوامل الاجتماعية والثقافية، مدعومًا بتأثير التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، ساهم في نشوء بيئة مليئة بالتناقضات، يعاني فيها الشباب بشكل خاص من شعور مزدوج بين الاغتراب والعجز، مما فاقم حالتهم النفسية، وبالتالي وإن لم تؤدي هذه العوامل إلى تعزيز ثقافة الانتحار، فقد دفعت الكثير منهم إلى اللجوء إلى مخاطر أخرى مثل إدمان المخدرات أو الكحول، أو حتى الانضمام إلى تنظيمات مسلحة. ومع أبعاد المخاطر هذه، يصبح من الضروري أن يكون هناك تدخل من الجهات المعنية.

المصادر للإحصائيات الواردة في المقال:

الانتحار في العراق: أرقام قياسية وبغداد تتصدر القائمة

دراسة تكشف معدل البطالة في العراق منذ 2003 ولغاية 2022

بالأرقام.. ارتفاع كبير في معدلات الانتحار بالعراق

إقرأ أيضا