صمت الرواية يحكي الكثير

الكاتب الأسباني خيسوس كاراسكو (1972) اعتبر مسودة روايته \”الهروب\” intemperie فرصة أخيرة له ليكون كاتباً. يكتب منذ عشرين سنة, لكنه لم يكمل أو ينشر له رواية كاملة. لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر, قال لنفسه. القدر كان يخبئ مفاجأة له: رواية \”الهروب\” حققت نجاحاً عالمياً.
مظهره يجعلك تفكر بـ\”دون كيخوتة\”: نحيل, سريع الحركة مع شارب كبير. لن تبذل الكثير من المجهود لتتعرف على كاتبك خيسوس كاراسكو على ظهر حصان أو حمار يتجول في أراضي قاحلة في أسبانيا, من طاحونة هواء الى أخرى, من نبع الى آخر. يمكن أن يكون هو نفسه الراعي اللطيف أو الطفل المجهول الشجاع  في روايته الأولى \”الهروب\”.
خيسوس كاراسكو ترك أنطباعاً قوياً هذا الخريف مع \”الهروب\”, رواية تتحدث عن صبي يترك قريته ليهرب من حاكم القرى. في ريف قاحل, متصحر, خالٍ من الطعام أو الماء, إلا من شمس حارقة فوق رأسه, يضمه راع عجوز, حكيم وقليل الكلام, تحت رعايته. رغم أن الصبي لم يثق بالعجوز في البداية, إلا أن الراعي حماه من الحاكم والمتواطئين معه. يسكن كاراسكو اليوم في إشبيلية الرائعة, لكن الأرض التي تدور فيها أحداث الرواية, رسمها وفقاً لذكرياته. \”الصيف الذي أتذكره من طفولتي في الريف, كان جافاً جداً, تماماً مثل الصيف في روايتي. لقد ترعرعت في قرية صغيرة الى الجوار من توليدو, مساحة شاسعة وجافة مع جبال في الأفق. تملأ أمي كل القناني والأباريق بالماء منذ الصباح الباكر, حتى يكون لدينا ما يكفي من الماء طوال اليوم, لأن الحنفيات تغلق مساءً. جعلني هذا أدرك أهمية الماء العظيمة. في \”الهروب\” الماء كان هو الحياة, والشمس هي الموت. هناك الكثير من الأراضي القاحلة في إسبانيا, حيث هُجرت القرى. المناخ القاسي دفع بالفلاحين الى الزحف نحو المدن.

حديقة ألعاب

على عكس ما مر به الصبي في الرواية, يصف كاراسكو طفولته بأنها مثل \”حديقة ألعاب\”, مرحلة جميلة. \”أنتمي لعائلة كبيرة, أربعة أخوة أكبر مني وأخت أصغر مني. إذا كنت ضمن جيش من الأولاد, لن يركز أباؤك كل اهتمامهم عليك. لذا شعرت بالحرية، كنت أذهب باستمرار للبحث والتسكع في رحلة لا نهاية لها حول البلاد. في قريتنا يمكنك فعل شيئين: كرة القدم أو الركض، كنت أركض في الطرق والحقول\”.
في البداية لم يكن للقراءة مكان في حياة خوسيس الصغير رغم أنه كان محاطاً بالكتب. \”والدي كان أستاذا, أستاذ مدرسة, وبعد الظهر كان يعمل في تجليد الكتب. في تلك الفترة كان الناس يشترون الكتب على هيئة أجزاء من محلات بيع السجائر. إذا اكتملت أجزاء الكتاب يربط أبي هذه الكراسات مع بعضها لتصبح كتاباً. الوحيد الذي كان يقرأ في بيتنا هو أبي, كان يقرأ كتباً عن الدين, وعن المقدسات شيئاً من هذا القبيل ــ كان رجلاً متديناً جداً. حبي للغة ورثته منه. بدأت بالقراءة الجادة عندما كنت في الرابعة العشرة من عمري. قريتنا كانت صغيرة جداً لتضم مكتبة, لكنها كانت كبيرة بما يكفي لباص الكتب. ابن عمي الذي كان يسكن في قرية أخرى, أهداني كتاب أستريكس المصور. وبعد الظهر من كل يوم كنت أقرأ الكتاب تحت الشمس, كانت من أجمل الأوقات في حياتي\”.
احتسى كاراسكو بيرته ثم أمسك بشاربه, وزن كلامه بعناية. \”في \”الهروب\” يلعب المشهد دوراً مهماً. اللغة تعكس المشهد ــ الأرض القاحلة والجافة ــ وبالعكس. حاولت قدر استطاعتي استخدام الكلمات من أجل سرد القصة. إذا وهبت كل شيء, وقلت بالضبط كيف تشعر وتفكر الشخصيات, فلن تبقى مساحة لتصور وشعور القارئ. الكاتب ريموند كارفر على سبيل المثال، كان أستاذاً في وصوله الى قمة التعبير بكلمات قليلة جداً. يترك كل ما هو غير ضروري. في الشعر يحدث شيء من هذا القبيل, بضع كلمات لتصف العالم, الجمال, ولكن يجب عليك أيضاً أن تشارك كقارئ. تترك مساحة فارغة, حتى يتسنى للقارئ ملؤها بسروره, حزنه أو خوفه. أعمل جاهداً من أجل ذلك. من خلال وصف البيئة أو الحاجيات التي تحيط بالشخصية, ستجعل الشخصية واضحة جداً من دون الحاجة الى تسميتها حرفياً. مجرد أن تعرف الطريقة التي يحرك بها شخص ما يديه, سوف يمكنك قراءة  صفاته، ليس من الضروري أن تمنح مكافأة كبيرة. لهذا شخصياتي لا تمتلك أسماً ويبقى مكان وزمان حدوث القصة غامضاً. كامناً في الأشياء التي لم أتكلم عنها. في الحقيقة, الصمت يحكي أكثر من الكلمات\”.

إيقاع طبيعي

رأينا ذلك يحدث بالفعل عندما اصطحبنا خوسيس كاراسكو الى حديقته, خارج إشبيلية بمسافة قليلة, حيث يزرع مع أصدقائه الخضروات. وبينما هو يزيل الأعشاب الضارة ويعتني بالخس, تغيّرت تعابير وجهه ـــ أصبحت أهدأ, ألطف. \”حديقتي هي المكان المحبب لدي, وهذا يتعلق بشيء أعمق من الاسترخاء. شيء.. قديم. نحن نعيش حياة سريعة، وكل يوم تصبح الحياة أسرع. نستنفذ الأرض وأنفسنا، لكن الطبيعة تمتلك إيقاعا مختلفا تماماً, تأخذ الوقت لتنمو وتنضج. وهنا تكمن الكثير من الحكمة، هو شعور بالخلود\”.
\” أتذكر رجلا عجوزا, جد صديقي, لديه هذا النوع من الحكمة. في أحد الأيام رأيته يبكي بين الأشجار، كان يحاور الأشجار، ترك هذا المشهد أثراً عميقاً في نفسي\”. كان مسحوراً بالتربة, قال كاراسكو, من خلال العلاقة بين الانسان والبلاد, الأرض. \”روايتي القادمة تدور بالكامل عن هذه العلاقة بين الانسان وبيئته الطبيعية. كما فعل الكاتب الإيسلندي جون كالمان ستيفانسون في روايته \”السماء والجحيم\”, حيث رسم العلاقة بين الصيادين والبحر, أعجبتني الرواية كثيراً. أريد أن أبحث أكثر في العلاقة بين الأنسان والأرض. ماذا يحدث لو خسرت كل شيء ـــ العائلة, العمل ــ هل ما سيبقى من البلد, الأرض, يكفي لسد أحتياجاتك؟ هل ستحافظ على كرامتك؟ من الصعب أن أوضح سبب انشغالي بهذا الموضوع. لقد عشت نصف حياتي في المدينة: أولاً في مدريد, والآن في إشبيلية. لكن.. أشعر بأني لازلت قروياً\”.
عائلته وأصدقاؤه يشكلون مجموعة مترابطة, هم مثال للعالم الذي يريده. \”أُفضل العيش في عالم بدون جدران, بدون حماية. حيث العلاقات بين الناس قائمة على الأحترام والحب. هناك فرق بين العالم الذي أتمنى أن أراه وبين العالم كما هو الآن. رواية \”الهروب\” تتناول العالم كما هو الآن. تحدث أشياء فظيعة, لكنها تحدث بالفعل مثلما نرى ذلك كل يوم في الأخبار\”.

صمت الرواية يحكي الكثير

العنف

العنف همه الآخر. \”أنا أخاف من أي شكل من أشكال العنف. أسأل أي شخص في الشارع وسوف يقول لك بأنه ينفر من العنف. لكن العنف موجود فينا جميعاً وفي كل مكان من حولنا: في علاقاتنا, زواجنا, علاقتنا مع أبنائنا. ليس من الضروري أن يكون العنف شكلاً متطرفاً من العدوانية, يمكن أن يكون في طريقة كلامنا أو يتخذ شكلاً معينا من السيطرة في العلاقة المتبادلة. من هذه الحلقة الصغيرة يتدفق المزيد نحو الحياة الاجتماعية, على شكل حرب, جريمة, وقمع. لا أحد يجد ذلك جيداً, لكنه موجود منذ وجود الانسان على هذه الأرض. لماذا نحن غير مستعدين لمكافحة العنف؟ لا أفهم ذلك.
غالباً ما نريد نسيان الأشياء الفظيعة. أكتب عن ذلك لكي أجد تفسيراً لما يحدث. الفهم بالنسبة لي هو أول الخطوات على طريق التغيير. لا تخف رأسك في التراب, وكأنما الحياة قصة سعيدة. تحمل مسؤولية نفسك وحياتك, أجده شيئاً مهماً. الاهتمام بالعالم من حولنا. إذا تحملت مسؤولياتك, فسوف تستطيع في لحظة وقوعك في خطأ أن تقول: حسناً, كانت هذه غلطتي, بدلاً من القول: حسناً, كانت هذه غلطة الآخر أو كان سببها كذا وكذا. كلما تحملت المسؤولية أكثر, كلما قل خوفك. وهذا يجعلك أنساناً حراً\”.

المصدر: مجلة \”كتاب\” الهولندية/ عدد سبتمبر 2013

إقرأ أيضا