عرفت جمال عبدالناصر في عمر مبكر، فقد كان اسمه يتردد في مجلس أبي حين يلتقي ببعض أصدقائه، الا أنني اكتشفت فيما بعد أن أبي لم يكن ميالا له عكس أخي الكبير العضو في حزب الاستقلال الذي كان عبد الناصر مثله الأعلى، وقد أخذت منه اعجابه به وحبه له. وأنطبعت عندي صورة عبد الناصر فارسا يمتشق سيفه ليحارب أعداءه وينتصر عليهم، وعندما كبرت اتسعت دائرة الوعي لدي، وأدركتني السياسة مبكرا، وبدأت أقترب أكثر من الحركات السياسية التي كانت نشطة آنذاك، وأصبح لي فيها معارف وأصدقاء، لكن تلك الصورة الرومانسية لعبد الناصر لم تغادر مخيلتي، كما أن شخصيته أنطبعت في ذهني كما لو كان \”المخلص\” – بفتح الخاء وتشديده – الذي بشرتنا به الديانات. وفي حينها كنت عثرت على صورة فوتوغرافية له في أيام شبابه، لا أتذكر كيف وصلت الى يدي، لكنني كنت أحرص عليها دائما وأضعها في حرز حريز، وظلت تلك الصورة معي زمنا طويلا، لكنني سرعان ما نسيتها بعد أن حكمت علي الأقدار أن أتنقل بين الأمصار والعواصم طالبا أو دبلوماسيا أو منفيا باختياري، لكن الصدف وحدها أعادت لي تلك الصورة مع مجموعة صور كنت أودعتها لدى صديق في حينه، والصدف وحدها أيضا أوصلت لي تلك الصورة في الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي الذي اكتملت فيه ثلاثة وأربعون عاما مذ غاب المخلص، وتذكرت أن جيلنا كان يمني نفسه بأن يظهر عبد الناصر من غيبته يوما ما ليقيم دولة العدل وينتصر للمقهورين ويقاضي من ظلم، وعلى يديه سيتحقق الانبعاث العربي وتتجدد النهضة القومية!.
جمال عبد الناصر في شبابه ( من ارشيف الكاتب)
واذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد تداعت أمام ناظري مشاهد حبي لعبد الناصر واعجابي به وكأنها تحدث اليوم، فعندما تعرضت للأعتقال عام 1959على خلفية نشاطي الطلابي الذي اعتبرته السلطة آنذاك معاديا، عثر أفراد الشرطة الذين قاموا بتفتيش منزلي على صورة عبد الناصر الأثيرة عندي تلك، لكنهم لم يفطنوا الى هوية صاحبها، وظنوا أنها لممثل غربي فألقوا بها على الأرض!
ومرة أخرى أوقعني تأييدي لعبد الناصر في مشكلة، كان ذلك في أيلول عام 1961 عندما حدث الانفصال بين سوريا ومصر، وكنت في حينه أنا والزميل ابراهيم الزبيدي نقدم برنامجا من راديو بغداد باسم \”الوطن العربي الكبير\” وصادف موعده الاسبوعي في يوم الانفصال، فاخترنا موالا للمغني السوري ايليا بيضا يدعو للوحدة العربية، وذلك تعبيرا عن موقفنا في شجب الانفصال وادانته، عندها قامت الدنيا وقعدت وأحلنا للتحقيق لكن الأمر انتهى بسلام!
ومرة ثالثة سبب لي عبد الناصر مشكلة، كان ذلك عند زيارته للسودان في 28 أيار 1970 فقد كنت آنذاك أعمل ملحقا صحفيا في سفارة العراق بالخرطوم، وتحقق حلمي باللقاء به ومصافحته والترحيب به في مطار الخرطوم ضمن الكادر الدبلوماسي العراقي، لكنني وعلى خلفية الزيارة تعرضت للمساءلة الرسمية، فقد كنت كتبت تقريرا حسب ما كان سائدا الى مَراجعي في وزارة الاعلام عن وقائع الزيارة التي كانت زيارة تاريخية بالفعل، قوبل عبد الناصر فيها باستقبال اسطوري لم تشهد الخرطوم له مثيلا، حيث اصطف عشرات الآلاف على امتداد الطريق الذي سلكه من المطار الى القصر الرئاسي، وكانت الهتافات بحياته تشق عنان السماء، وقد وصفت كل هذا في تقريري المشار اليه، وخلصت الى أن عبد الناصر يتمتع في السودان بشعبية كبيرة، وان تأثير منافسيه البعثيين كان محدودا، الى هنا والأمر كان طبيعيا جدا، الا أنني أكتشفت فيما بعد أن القائم بالأعمال آنذاك وقد كان ممثلا للحزب في السفارة في حينه بنفس الوقت، قد كتب تقريرا الى مراجعه في وزارة الخارجية قلل من أهمية الزيارة وحتى من شعبية عبد الناصر، اذ زعم أن الاستقبال كان فاترا وأن الكثير من السودانيين عبروا عن امتعاضهم من الزيارة، كما زعم أن \”حركة الاشتراكيين العرب\” الواجهة التي كان يعمل من خلالها البعثيون في السودان قد سيطرت على الشارع السوداني.. الى آخر تلك المزاعم التي لفتت نظر وزارة الخارجية في بغداد والتي وجدت فيه تناقضا مع ما كنت ثبته في تقريري، وهكذا أخضعت للمساءلة الرسمية، لكنني استطعت أن أخرج هذه المرة أيضا بسلام بعد أن قدمت لبغداد ما عندي من أدلة عن صحة وموثوقية تقريري ذاك.
وكشفت لي تلك الواقعة كيف يضلل بعض الموظفين رؤساءهم بهدف كسب رضاهم ولو على حساب الحقيقة، كما أدركت في السنوات والعقود اللاحقة، كيف يمكن أن تؤثر مثل هذه التصرفات في دفع المسؤول الأعلى الى تبني سياسات ومواقف خاطئة قد تضر بالبلد في آخر المطاف!.
وعلى أية حال، فقد ظهر بعد عبد الناصر العديد من \”المخلصين\” – بفتح الخاء وتشديده – الكذبة الذين حاولوا أن يتقمصوا شخصيته، وأن يبنوا أمجادا لهم على خلفية مجده، لكنهم رحلوا وبقي عبد الناصر في الذاكرة الحية.. واليوم أيضا تبشر أوساط مصرية بظهور عبد الناصر جديد، الا أن ذلك يبدو مجرد حلم، لأن عصر البطولة الفردية قد انتهى، ولن يأتي الخلاص هذه المرة، الا على أيدي الجموع المقهورة، القادرة على تشكيل عالم عربي جديد وان طال المدى!.
والشيء بالشيء يذكر!