قد أكون حديث عهد بالدين، وأن رحلتي الروحية الطويلة رافقها شيء من الإلحاد والابتعاد عن الحق، فكانت رحلة شملت عددا من البلدان وتعرفت فيها على أقوام من أديان شتى ودخلت وجربت طرقا صوفية لا تشترط الاسلام شرعا، وإنما تعتمد كل الأديان التي يؤمن بها الناس بضمنها الاسلام ولاتتبع شريعة محددة.
دخلت الى البوذية ودرست مذاهبها ومارست تمارينها الروحية العميقة، لكنني عدت بعد هذه الرحلة مليئا بالاسلام ومندفعا اليه.
كنت في أواخر أيام أدائي للتمارين الروحية البوذية، وحيث أكون جالسا ويصل تركيزي الذهني الى ذروته فاني أشعر بطاقة تنبض بها خلايا جسدي، فأقول في نفسي وأنا أحس بكل هذا \”سبحانك ربي ما خلقت هذا باطلا\”، وحين أخرج من قاعة التمارين الروحية، كنت أرى حبات المطر لامعة على أوراق الشجيرات والغيوم تمر بي غيمة بعد غيمة، فأقول سبحانك ربي ماخلقت هذا باطلا.
يتبادر الى ذهني بين حين وآخر لماذا لم أبدأ علاقتي مع الاسلام أبكر من هذا الوقت، الآن أدرك السر، إذ أن الفقه أو الطريقة التي كان يعبر بها عن المحتوى الديني لم تكن مناسبة، فقد ورثنا إرثا ثقيلا ومغلقا علينا، فانا الان اصادف المشكلة ذاتها التي صادفتها قبل أكثر من عشرين عاما، وهذه هي النقطة المهمة في ما أقول، والتي لها تداعيتها على المستوى الجمعي. فأنا قد تغيرت وأصبح إيماني أعمق لكن الخطاب الديني والفقهي ما زال كما هو مبهما موجزا في موقف عليه أن يكون اكثر تواضعا وإسهابا لانه يتعامل مع شؤون الناس الملحة التي يريدون فيها اشارة وجواز عبور لافعالهم التي لم يتأكدوا من صلاحها.
لنأخذ مثلا واحدا من كبار ائمة المسلمين حيث يقول في الوضوء \”لا تدع قطرة من الوضوء تسقط\”. لقد بقيت حائرا لماذا؟ وظل هذا السؤال مفتوحا الى الان، ولم أجد له حلا مريحا الا القيام بتأويل النص، فهل قصد هذا الامام ان قطرة ماء الوضوء طاهرة وسقوطها يعني انها تنزل الى مكان لا يليق بها ام انه يقصد هذا منعا للاسراف في الماء. ولكن بعد كل هذا، هل يمكن من الناحية العملية ان لا يسقط الماء. أمثلة اخرى عند فقهاء كثر من مثل \”الاحوط وجوبا\”، \”ولا يجوز\”، و\”مكروه\” من الاحكام.
هذا الاختزال وعدم الوضوح في الاحكام في صلب عملية العيش وله تداعيات كبيرة علينا كمسلمين. اننا لا نفهم النص ونحتاج الى متخصص ملم بالقران والسنة النبوية. ما يفعل النص الفقهي هو انه لا يفتح لنا بابا الى النص المقدس ولا يشركنا في معرفته. فنحن بعد اطلاعنا عليه تكون معرفتنا مجزأة عن السياق والصلة بالنص المقدس. النص الفقهي يرفض ان يحيلنا الى المرجعية من النص الاصيل ولا يشركنا في عملية استنباط الحكم عبر تتبع سير عملية الاستنباط. احالتنا الى النص المرجع واظهار عملية استنباط الحكم لها فوائد ومدلولات منها عملية الاظهار لسيرورة الحكم تجعلنا نفهم والفهم يشعرنا بقيمة انفسنا كبشر نتعامل مع مادة تدرك بالعقل وليست مادة غامضة مبهمة.
ولننظر الى ماذا يؤدي عدم الفهم هذا وهو ما تشهده حياتنا المعاصرة الان من تكفير واقصاء للاخر بسبب هذا التلقي الاعمى للنص الفقهي وعدم ممارسة الانسان العادي لمساحة من الحرية في تأمل النص المقدس، لأن الفقيه يغلق الباب امام هذه الحرية. التامل في النص المقدس يمنح المتامل قدرة على رؤية ان من حق الاخر ايضا ان يتامل النص وياخذ موقفا اخر منه عبر تبنيه جانبا اخر في التأويل، وهذا بسبب ان الاول قد جاهد في تامل النص وقلَبه من وجوه عدة، وبالتالي يكون له رحابة صدر في التعامل مع الاراء الفقهية الاخرى.
اضافة الى ذلك فان الايجاز والابهام في الحكم الفقهي يصنع مسلما فقير المعرفة فاقدا للحرية والجرأة والاستقلال في النظر الى الحياة، ويظل مثل الطفل لا يخطو خطوة الا بالاستنجاد بالفقيه. ونصل بهذا الى تقديس الفقيه وبالتالي كل يقدس فقيهه ونصل الى ما وصلنا اليه من الاحتراب بسبب الفقه. بعد هذه التداعيات وصلنا الى ركام كبير لا نملك موقفا واضحا منه ولا نملك بسببه فهما راسخا لجوهر لديننا. اذ ان الاحكام الفقهية اصبحت متونا تحتاج الى كتب لكي نفهم هذه الاحكام وبعد هذا كله فقدنا علاقتنا بالبلورة الاصل التي ينبغي ان تضيء كلما حركناها تحت ضوء الشمس، لكننا ثلمنا لمعان جوانبها.
*كاتب عراقي