طاعة الفطرة

الله أكبر.. الله أكبر.. مع تلك اللغة الماسيّة استيقظتُ فجرًا وكطائر يُرفرف بِجناحيه بغية الوصول إلى جنائن الوهّاب، بينما نذوبُ في الخشوع ونمتثل إلى الاستسلام بين يدي الخالق، شهدتُ لهُ بوحدانيته وآمنتُ بِكلّ ما أنزل وأمر، عادةً ما تكون دقائق الصلاة أبهى وأشرف وأصدق أوقات للروح. فإذا بالشمسِ تحيك خيوطها في الفضاء والطيور تطلب أرزاقها، أصبحتُ أفكّر كيف تُدار أنظمة الحياة لنتعلّم كيف نعيش وننشر الأمل كالشمس ونتشبث بالحياة بمخالب عنقاء ونأخذ نشاطنا مثل الطيور التي تُحلّق أمامنا، ونتذكر الموت وبأننا سنفنى مثل الليل الذي انقضى، تتكيّف تلك الأفكار راية وغاية وانفساح الأثير لتغييرات الليل والنهار كالحياة والموت.

أنظرُ من نافذتي فأرقب الفنّ والجمال في كثافة الأشجار والنخيل الباسق، العظمة تتجلّى في تألقٍ بهيّ، وذلك الجدار ذا الطراز العراقي الشائق بنقوشهِ ورخامه الملّون، يلوح لي برج فندق بابل المتخذ شكل الزقورة من بعيد، وعلى امتداد زرقة السماء فوق مستوى النخيل أرى الفن المعماري لبرج زها حديد، أنظر إلى ساعة بغداد التي كانت تقف شامخة لوحدها وبارزة بِوضوح إلّا انّ بعض هياكل البنايات الجديدة بانت بشكل لافت للنظر من خلفها، يجذبني إعلان على الشاشة الكبيرة لمول بغداد، يقف القمر مُتحدٍّ للشمس التي ستصفعه بعد قليل مزهوًا بجمالهِ فوق برج المأمون، أما على يسار مدى الرؤية فتبرز القبّة الفيروزية تمثل محطة بغداد المركزية للقطارات، الى الجهة الأخرى تتربع البناية البيضاء لوزارة الخارجية، وعلم كبير يرفرف عاليًا تظهر من خلفه بناية الأمانة العامة لمجلس الوزراء، أما السيفينِ في ساحةِ الاحتفالات الكبرى فكانا واضحينِ بشكل أكبر من الآن قبل الأبنية الجديدة الشاهقة في الارتفاع والتي أخذت تلتهم المعالم القديمة، ولا زالت مصابيح الشارع ترسل أضواءها رغم شروق الشمس، وبعد قليل لن تذوى وترضخ مستسلمة وحدها أمام الشمس وحسب بل سننصهر جميعًا كتحية سلام لشمسنا الحارقة، فالشمس في العراق لا تحجبها البنايات كما غطت ساعة بغداد وسيوف ساحة الاحتفالات، بل تدفع أبواب بيوتنا بعنف لتستقر على أرضية المنزل وجدرانه، تسيح وتلتئم مع أجسادنا، فهي أحد أهم العناصر عند تعريف هُويتنا.

وضعتُ طعامًا وبعض الماء للطيور التي اعتادت زيارة شرفتي، حتى أمسكتني رائحة القهوة التي أعددتها ووضعتها على مكتبي لتبرد قليلًا ووقعت عيني على رسالة من الأخ (مصطفى غافلي) كانت قد وصلتني ليطلب رأيي في موضوع عنوانه (كلّنا مصطفى سعيد)، بالعادة يستفيد المرء من جهود الآخرين ليزيد عليها ملاحظة وسأبعثها مثل النسائم من سماء إلى سماء.

كنتُ في جمّة الحماسة بينما أرقب الكلمات وأتتبعها بِوافرِ جمال النشاط ووجدتُ انّ الموضوع يحتاج إلى تأليف كتاب لأوضح فيهِ رأيي عن الهُويّة مستقبلًا، ولكن الآن سأردّ ببضعة أسطر على ما كتبتم من مقالة.

من شبّ على شيء شابَ عليهِ، هذا فيما يخصّ الطبائع وهي من الثوابت وليست من المتغيرات، فكان من الأفضل اختيار مفردة (أمزجة النساء) بدلًا من (أخلاق النساء) صحيح تحمل نفس المعنى ولكن وقعها في النفس أقل مما وصفت في السطر الثالث في الصفحة الأولى. وعمومًا انّ أمزجة النساء مثل أمزجة الرجال! أقصد للبلد الواحد لأنهم نشأوا في نفس البيئة التي شكلّت طبائعهم. وهنا احتاج لشرح وتفصيل لا يمكن توضيحه في مقالة من ناحية تأثير المحيط في الإنسان.

مثل اقتلاع النباتات من أرضها في المشتل وغرسها بِعناية في حديقة البيت لتبقى نابضة، هكذا كانت كلماتك في بداية المقال، فمن أحب الوصف لديّ هو وصف المكان وما يحتويهِ أثناء السرد من طقس وظروف بل وإلامَ تشير كل إيماءة، فلا يكتمل النص إلّا بِذكرِ تلك التفصيلات الدقيقة التي تدلّ على يد الكاتب السخيّة في إناطة الموضوع الرئيسي وذلك بوضع الخطوط الأساسية لروح الحكاية ومعناها. وهذا ما وجدتهُ في المُستهلّ.

كان عنوان رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” من ضمن اهتماماتي المُهملة، والمدوّنة على قصاصة ورق تذكرني بِاستمرار على اقتناءها إلّا انها تحوّلت إلى قصاصة بليدة! لِذا لم يتسنَ لي فرصة قراءتها حتى الآن.

لكن سأكتب حسب ما فهمتهُ من كلماتك، في ثلاث قراءات، لتحليل شخصية المهاجر، وتفسير الظرف الذي قاده لتلك الأفعال، ختامًا بما استنتجتُ، وكما ذكرتُ مُسبقًّا بأنها مقالة وليست كتابًا قابل للتفصيل لذا سأختزل التفصيلات وأكتفي بقدر قليل من الكلمات ولكن ذا مغزى:

القراءة الأول انّ الإنسان المُهاجر أشبه بمن ابتاع قماشًا وألوانًا زيتية وفرشاة، عندها يجتهد في رسم لوحة زاهية ذات ألوان بهيّة من الخضرة والحرية والماء والجمال ذا السحر الفتّان، وقد يجتمع كلّ هذا لإنسان، لكن لا يكون مرتاحًا وفرحان.

فيحاول تثبيت صورته التي رسم في جدار البلد الذي نزح نحوه واتخذه وطنًا، إلّا انّ روحه لم تجد ثباتًا، أي الصورة جميلة لكنها لا تشعر بالإنتماء، فهو ليس مكانها الصحيح.. لِذا تحاول رسم أجمل ما لديها من حيَل كي لا تندثر هُويتها الأم مثل الطفل الذي يسلبوه من أمه ويتحايلون عليهِ بِقطعة قماش يعود لها كي يشمها ويطمئن ويخفف نوعًا ما من نحيبه عليها، شوقًا لها، وهذا ما لمسته من الوصف كالموقد العربي والدلال وغيرها.

وعند عودتها إلى بلدها الأم ستجد انّها مختلفة عن صور بلدها وكلّ شيء تغيّر وتتساءل ألستُ منهم إذن؟ فلا تشعر بِالانتماء كذلك. لِذا أحسّت هذهِ الصورة بِالضياع، وهنا تهتز ثبات الانسان الوجودية بِممارسات تلك المجتمعات المتناقضة في مفاهيمها، فتزعزعت الروح في توازنها، فيشعر انّ سبب الهروب نحو الانتماء المُضلّل في الانغماس في البحث عن المستقبل في لحظة واضحة لأن يصنع شخصه تحت ضوء كبير ظنًا منه انّه يثبت ذاته ولا يعلم انّهُ الضوء الذي يحرقهُ ويحوّله إلى جسد تنخرهُ الهشاشة ويعرضه لِوخزات الضياع.

هنا يكون الإنسان رهين أمرين: الحرية والعبودية!

الحرية في التعبير عن انطلاق أفكاره وآرائه وتحقيق ما كان يخطط لَهُ من أهداف في الحياة، كان قد حقّقّ أغلبها، حتى راح ينشد مفاخرةً بنموها وجمالها

وعبودية راسخة تجاه فكرة اللامنتمي للمكان والناس وأنّه فشل في الاندماج في المجتمع.

أمّا العاصفة الهوجاء في رأسه فإنّها تقلع الحرية والعبودية معًا!!

فيشعر انّهُ غير منتم لِفئة، أي الناس في كلا البلدين البلد الأم والبلد الذي نشأَ فيه، لِذا شعرتم مثل مصطفى سعيد ورفعتم شعار “كلّنا مصطفى سعيد”.

مصطفى غافلي

القراءة الثانية هي ان الإنسان طيّب في لقاءاتهِ مع الناس لكنّهُ يمتلك عدة شخصيات لا يظهرها كلّها، لربما تدلّ أفعاله على تبدّل الأمكنة والأزمنة وغربتهما، لذا تصرّف على نحوٍ لم نكن نتوقعه.

وعلى كل حال فبعض الرجال لديهم طبيعة استحواذية متمخضة من تجربة قاسية لاقاها في طفولته لذا ينهج ذاك الطريق لإثبات ذاتهِ من خلال ضياعهِ لأنّهُ مزج بين الجميلات اللائي بذلنَ كلّ ما يعرفنَ من حيَل التقريب ليجذبنه فاستحصل من هذهِ نظرة ومن تلك ابتسامة وهو يجاري الحب ويرمي بالنظرات ويسكر في الابتسامات، لكن بين إلوف الأصوات في رأسهِ يقول أما كان في وسعها ان تكون أكثر احتشامًا في هندامها؟ أما كان في وسعها أن تكون أكثر تحفظًا وأبرع كياسة؟

فأكثر نساءهم كالحرباء التي تُغيّر لون جلدها، أي انهنّ يتقبلنَ مثل تلك الأمور المحرمة، فلعلّ أفعالهُ هي رد فعل لاحتلال السودان من قِبل البريطانيين ومغامرات ضباطهم وجنودهم، ولو من رأيي لا يُمكن تبرير الفعل القبيح بأيّ شكلٍ من الأشكال، فتركيبة المجتمع مختلفة في بريطانيا عن السودان.

وعلى ما أعتقد انّكم لستم محمومين بِحمّى الطفل اللعوب وعندها ستكون العبارة “لسنا مثل مصطفى سعيد”.

ومن باب المزح، عند قراءتي لِبعض الكلمات الجريئة في المقالة فتحسّستُ من ذلك الوصف كما تم أحراجك وصديقك من حديث جدته، لذا قلتُ “كلّنا ام رحيّم”!!

القراءة الثالثة لمّا نظرتُ معمقًا وربطتها بِأحداث الوضع الراهن فوجدتُ بالفعل كلّنا مصطفى سعيد! وسأقوم بِتوضيح ذلك

 هناك مقولة لسقراط (اعرف نفسك) وهنا لن أجعلك تتوه أكثر بتلك المقولة بينما تقف في منتصف خارطة المتاهة بل سأعطيك طرف خيط الحلّ.. أخ مصطفى لو أخرجتَ من جيبكَ الآن الهُويّة، أي بطاقة الأحوال الشخصية ستجد فيها اسمك ولغتك وبصمة إبهامك التي تميزك عن بقية الناس ومكان تولدك ولأي بلد تنتمي، لِذا الولاء يكون للوطن الذي ولدتَ فيه وتعلّمت فيه وأكلتَ من خيراته وهذا أمر حتمي وواجب عليك.

أمّا لو كان والداك من وطن آخر واستقرا في الوطن الذي تقطنه الآن ويهزك الشوق لوطن آباءك، هذا يعني انّ قضيّة الانتماء والهُويّة تكون وراثية تنتقل عبر الجينات. في مثلِ هذه الحالات تلعب كلتا الهويتينِ (أقصد هُويّة الأحوال الشخصية والهُويّة الجينية) دور الأنا في النفس البشرية فقد تأتي أوقات تلغي إحداهما الأخرى لتسيطر عليهِ بِشكلٍ تام وفي أوقات أخرى تمتزج كهُويّة كاملة تقود الإنسان إلى الحيطة والحذر في الوقت آنهِ، فلا بُدّ أن يظهر لِلمحيط انّهُ ينتمي لهم ويُظهر لَهُم نفس العادات والتقبّل حتى وإن شعرَ عكس ذلك، أي يُثبت لَهم انّهُ هناك قاسمًا مشتركًا معهم.

يشعر أغلب الناس بِالإنتماء للوطن، في داخل الوطن الواحد فإنّهُ يتكوّن من عدد من العشائر، فينتمي كل فرد منّا لعشيرة، ثمّ إلى المكوّن الأصغر العائلة. واللغة كذلك يتحلّق حولها كثير وينتمي لها أعداد هائلة من السكّان، كلّ مجموعة لها لغة منفردة عن غيرها، وحتى الدين.

فالولاء يجب أن يكون لدين الحقّ، ولو تتبعنا أحاديث الرسول (صلى الله عليهِ وآلهِ وسلّم) فقال: إني تارك فيكم الثقلينِ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

إذًا الهُويّة مُتشكلّة من كل تلك العناصر التي ذكرتُ وإنّها تتشكل خلال حياة الإنسان وتأثير محيطه به، ومن رأيي ويقيني فإنّ الإنسان يولد وهويتهِ الإنسانية تولد معه، أي انتَ ابن وطن كبير يُدعى العالم، فبالنسبة لي انّ الإنسانية هي أول تعريف ممكن أن يُعرّفه المرء ويعلن انتماءه لَه وهذا ما يُحركنا تجاه بعضنا الآخر في تقديم الأعمال الإنسانية ومد يد العون لكلّ من يحتاجها، فلو نشب حريق في دار جارتي لركضتُ كالبرق للمساعدة، من دون تفكير لأي قومية أو طائفة ينتمي أهل ذاك البيت. فهنا سأتحرك من دافع الواجب الإنساني والفطرة التي فطرنا الله عليها. فلو سمعتُ أحدًا من أقاصي الأرض ينتمي لدين الحقّ وللإنسانية ويتعرّض للظلم وبحاجة إلى من ينصره، فلن أهرول بل سأنصره بلمح البصر بالنفس والكلمة والمال والسلاح. فإنّ نصرتي لهُ مُعدّة. وقد قرأنا كلمات فولتير حيث قال انّ في كلّ وطن واسع عظيم هناك ملايين من أبناءه يستظلون سماءه ولا وطن لهم، حيث تكلّم فولتير وتكلّم ديدرو معهُ وغيرهم كثر ممن ساعدوا على التمهيد للثورة الفرنسية التي أعلنت حقوق الإنسان وأنهم ولدوا أحرارًا، وهذا ينطبق على فلسطين فنتشارك معهم كعرب بنفس هُويّة الإنسانية والدين واللغة، ومن الدول الإسلامية من تتشارك معهم هُويّة الإنسانية والدين، وبعض الدول تتشارك معهم هُويّة الإنسانية، إذًا من الواجب علينا جميعًا نصرة فلسطين والتصدي لإعداءها، لِأنّ أعداءها هم أعداء الإنسانية بالدرجة الأولى وهو القاسم المشترك بين كلّ تلك الهُويّات التي ذكرتُ.

سنبارز الظلم ونتباهى بهُويتنا وسنكون إمثولة للأجيال القادمة في الشجاعة لأنّ الهُوية أوفرها استيعابًا لِمعاني النفس، وما تحملهُ نفوسنا من نبل وشرف كما قال الجواهري: أقولُ لنفسي إذا ضمها، وأترابها محفل يزدهى. تَسامَي فإنّك خير النفوس إذا قيس كل على ما انطوى. وأحسنُ ما فيكِ انّ الضمير، يصيحُ من القلب إنّي هنا. تَسامي فإنّ جناحيكِ لا يقران الّا على مرتقى. كذلك كلّ ذوات الطموح والهم، مخلوقة للذرى. شهدتُ بِأنّكِ مذخورة لأبعدَ ما في المدى من مدى. وإنّكِ سوف تدوّي العصور، بما تتركين بِها من صدى.

فإذا تخيّلنا انّ أميركا وإسرائيل هي (جين مورس)، إذًا كّلنا مصطفى سعيد في هذا العالم.

إقرأ أيضا