\”طشاري\” انعام كجه جي.. الهرب للحفاظ على الماضي

المألوف خاصة في عالمنا العربي ان يهجر الانسان بلده الى بلد آخر كي يبني مستقبلا او لينعم بما بقي له من مستقبل في بلد راق.

لكن رواية \”طشّاري\” للكاتبة العراقية انعام كجه جي تمثل في شخصيتها الرئيسية حالة استثنائية مختلفة اذ ان بطلة القصة الطبيبة العراقية المتقاعدة التي تبلغ الثمانين من العمر تهجر بلدها وتلجأ الى فرنسا لا سعيا الى مستقبل.. بل كما يبدو حفاظا على صورة ماض كان بالنسبة اليها هنيئا رائعا حوّله القتل والرصاص والتفجيرات في العراق الى حلم زال وحل محله كابوس واسع النطاق لا تبدو له نهاية قريبة.

البطلة هنا لم تعد تعرف العراق الذي احبته فحملت صورته الماضية الى بلد غريب فتح لها بابا للجوء والحفاظ على الكرامة.

عنوان \”طشّاري\” يشير إلى التشظي والتشتت في كل الجهات او ما يقابل معنى القول العربي القديم \”تفرقوا ايدي سبأ\”. والرواية هي عمل من اعمال قصصية عراقية اخيرة تتحدث عن التهجير خاصة تهجير الاقليات. وهي تتناول تهجير المسيحيين العراقيين.

افراد العائلة والاقرباء والمعارف خاصة ابناء الجيل الجديد وبناته الذين يهربون من الموت ويبحثون عن مستقبل وحياة كريمة توزعوا في انحاء الارض قاطبة.

البطلة الدكتورة وردية اسكندر تصور الامر بشكل رمزي فتقول \” الساعة الان هي السابعة في باريس. التاسعة في بغداد. العاشرة في دبي. ما زالوا في منتصف الليلة الماضية في مانيتوبا (في كندا) وهي الواحدة بعد منتصف الليل في هايتي.

\”كأن جزارا تناول ساطوره وحكم على اشلائها ان تتفرق في كل تلك الاماكن. رمى الكبد الى الشمال الامريكي وطوح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج. اما القلب فقد اخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة تلك المخصصة للعمليات الدقيقة وحزّ بها القلب رافعا اياه باحتراس من متكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج ايفل وهو يقهقه فرحا بما اقترفت يداه\”.

العائلة بأبنائها وبناتها موزعة في انحاء العالم.. ابن مهندس في هايتي وابنة طبيبة وزوجها في مناطق الصقيع الكندية النائية واخرون واخريات في الخليج ومناطق اخرى وابنة اخيها وزوجها وابنهما في باريس.

وصلت الى باريس لتعيش معهم. الرئيس الفرنسي وقتها نيكولا ساركوزي وبمناسة زيارة البابا بنديكت الى باريس دعا عددا من المسيحيين العراقيين اللاجئين الى لقاء واحتفال.

اوصلها سائق التاكسي الى القصر الرئاسي الفرنسي في الاليزيه. تقول بمقارنة واستغراب \”هذا هو الاليزيه اذن. رأت قصرا رماديا يقع في شارع متوسط يزدحم بالسيارات والمشاة. لا عساكر ببنادق رشاشة وشوارب كثة ونظرات تقدح شررا. لا احد يروع المارة ويهشّهم الى الرصيف المقابل – الى عدة شوارع بعيدة عن المكان. لا مناطق حمراء وخضراء وبرتقالية. ان امامها الكثير لكي تندهش وتتعجب قبل ان تتعود\”.

في قاعة الاحتفال جلست الدكتورة وردية بجوار عدد من العراقيين المسيحيين اللاجئين الذين خصصت لهم الصفوف الامامية. لقد قيل لهم انهم ضيوف ساركوزي فصدقوا الحكاية ودخلوا بعد شهر من لجوئهم الى هذا البلد القصر التاريخي الذي لم يطأ ملايين الفرنسيين عتبته\”.

تسكن مع ابنة اخيها وعائلتها. الابن المراهق ماهر في ألعاب الكمبيوتر ولا يلبث بناء على تشجيع العمة ان يرسم شجرة العائلة على الكمبيوتر ويصنع قبورا افتراضية لجميع الاقرباء. لكن هؤلاء في النهاية يرفضون هذه القبور فهم مازالوا يحلمون بان يدفنوا في العراق لا في بلدان غريبة مع ان وطنهم لا يريدهم ويقدم لهم الموت او الرحيل لمن كان محظوظا منهم.

كتابة انعام كجه جي مؤثرة حافلة بالاحساس وهي تنقل التفاصيل اليومية ووجوه الحياة المختلفة بدقة وتبني منها صورا اوسع واعمق من كل منها على حدة. انها تروي لا حياة شخص او اشخاص فحسب بل قصة مدينة بل مدن وبلاد كاملة. قراءة نتاج الكاتبة يقدم متعة دون شك. لكن لابد من ملاحظة هي ان \”النمو\” في الرواية قليل.. فالذي تورده وتكرره عادة سمات لوضع رهيب وتتعدد السمات والصور لهذا الوضع الثابت.

ليس المقصود هو ان تغير الكاتبة هذا الوضع فهذا غير معقول وغير مطلوب لكن المقصود هو ان وصف هذا الوضع واحداثه تكاد لا تتغير او تتجدد الا في تفاصيل ليست اساسية. النمو والتغيير الذي تشهده مراحل حياة وردية اسكندر اكيد وواضح لكنه يتكرر في صور مختلفة ولعل سبب ذلك هو ان هذا التغيير يمتد عبر فترة طويلة بلغت ثمانين عاما.

الا ان هناك مرحلة في الرواية \”تكثف\” فيها النمو وجاء ملحوظا واضحا وذلك عند رسم حياة ابنتها هندة في اقاصي كندا. اننا نشهد هنا نموا تميز عن حالات اخرى في الرواية. وعندما تروي هندة حياتها كطبيبة في مانيتوبا فهي ترسم لوحات ممتعة مفصلة لا عن حياتها فحسب بل عن حياة السكان الاصليين الذين يعرفون بالهنود الحمر وآلامهم ومشكلاتهم وأحلامهم.

يستغرق القارئ في قراءة هذا القسم الذي يبدو في احداثه واجوائه كأنه مستقل عن الرواية. وتصف العلاقة الانسانية الدافئة التي قامت بينها وبين السكان بعد تعب وعذاب طويلين لاثبات نفسها حكوميا وشعبيا.

تصف لنا المستشفى الذي تعمل فيه فتقول \”يقع المستشفى في مدينة صغيرة خارج المحمية… وبدل الفضاء الترابي هناك شارع رئيسي معبد… اما دار الاطباء فكانت مجموعة غرف في مبنى من طابق واحد لكل منها بابها المستقل الذي يفضي الى الشارع. وفي الغرفة زاوية للطبخ وحمام وفسحة تحتوي على اريكة يمكن تحويلها الى فراش\”.

وبتفاصيل مماثلة كأنها من رواية اخرى تتناول حياة السكان ومشكلاتهم. تقول الكاتبة \”تعتاد هندة مكانها الجديد وتصبح مشكلات التأقلم قصصا تحكيها لزوجها وتكتبها لوالدتها في الرسائل. والطبيبة الاتية من بلاد الف ليلة وليلة صارت حكاية يتسلى بها الاهالي… خافت ان تتحول الى ولية في تلك البقعة النائية حيث تقسو الطبيعة على القوم الذين يعبدونها\”.

وتصف المؤلم والمضحك فتقول مثلا \”استقر اسم جاك في بالها. كان مريضها الاول الذي افتتحت به سجل الزيارات… كان يعاني من ارتخاء في المعدة\” عالجته فتحسنت حالته \”وبعد فترة ارسل لها جاك ابنته وزوجها. انها المرة الاولى التي ترى فيها شابين في اواسط العشرين مصابين بتشمع في كبديهما. لا ينفع الكلام مع مدمنين على الشراب… لا احد يعترف بانه مريض… ان قوانين البلد تكفل حرية المواطن في التصرف بحياته طالما كان بالغا سن الرشد وليس من حقها انتقاد اسلوب عيش اي مريض. كل ما في وسعها تقديم النصيحة دون ضغط او ارغام.

\”لقد عالجت حالات كثيرة للسكري والضغط وتكلس المفاصل لكنها لم تقابل عشرات يعانون من الامراض الزهرية الا في مانيتوبا. لا تصدق ما تراه. تتمهل وتنتقي العبارات المخففة وهي تخبر المريض بانه مصاب بدرجة متقدمة من داء السكري… لكنه يقابل الخبر بالضحك والسرور… هذا المرض تقليد قومي ولا حرج في الانضمام الى جموع المصابين بالسكري في المنطقة\”.

إقرأ أيضا