أكثر من مرة حاولت تغيير طقسها الصباحي، لاسترجاع حيويتها وابتسامتها اللتين فقدتهما منذ زمن.. أدارت عجلة المذياع فور صعودها السيارة صباحا باتجاه عملها، وغيرت محطة الأخبار المعتادة لديها لتستمع لاليسا وتترنم معها (الفرحة اللي أنا فيها دي كلها ترجع ليك وأنا جنبك راضية ومرتاحة…) توقفت قليلا وتذكرت أنها في الحقيقة ليست مرتاحة.. فأرتال السيارات العسكرية المارة قربها ذكرتها بمعارك يخوضها الجيش العراقي والعشائر في الفلوجة، وهناك ضحايا وخوف وترقب يسود الناس من اشتداد الأزمة وتعقيداتها، فيما يشارك الطقس المعركة بمعدلات برودة عالية.
الطريق أمامها بدا مشحونا هو الآخر.. مرت نصف ساعة قبل أن تتحرك طوابير السيارات المتوفقة أمامها دون أن يعرف أحدا السبب.. ربما لم يعد يكترث له أصلا لأن الجواب يتكرر كل مرة بأن هناك سيطرة أمنية مرابطة على الطريق.. أو موكبا رسميا.. أو حتى رتلا عسكريا.. وهو الاحتمال الأكثر نضوجا هذه الأيام.
لا أحد يتمنى عودة الحروب وذكرياتها.. ولا لوعة الفراق.. ولا نحيب الأمهات.. وهنا تبدو اختناقات الطريق لا تساوي شيئا أمام طقوس المعارك.. وحتى متسولات الشوارع وهن يحملن صغارهن عمدا في الشتاء لاستدرار عطف الآخرين.. لم يعدن مؤثرات إلا ما ندر.
صار بركان عقلها يتشظى وهي تفكر بان تترجل من سيارتها لتضرب رأس كل امرأة تلوك فقرها بطفل صغير لا حول له ولا قوة.. وقالت غاضبة \”كيف تصمت الحكومة على جريمة مثل هذه تحصل أمام مرأى الجميع؟ هل تخشى أن تفتح على نفسها باب المعوزين والعاطلين الذين يتناسلون كل يوم.. بدا الطريق مثقلا والأفكار الموجعة تتزاحم في رأسها رغما عن (صوت اليسا). حاولت أن تتشاطر لتسلك طريقاً أسهل، لكن عجلة مسرعة كادت أن ترتطم بسيارتها قبل أن تدير مقود السيارة إلى الجهة المعاكسة، لتتفادى صدم سيارة (سايبا) حاولت اجتيازها.
وبقيت تحبس أنفاسها حتى لاح أمامها المجسر القريب الذي أنشى حديثاً لتسهيل عبور العجلات، وهو يختصر الطريق البديل، لكنها وجدته مغلقا هو الآخر، أفراد السيطرة الأمنية المرابطة في مدخله قالوا إن تهديدات وصلت للوزارة المطلة عليه سببت إغلاقه حرصاً على أرواح الموظفين! لكن ماذا بشأن الملايين التي صرفت لتشييده؟
خطواتها القريبة من مقر عملها لم تكن بأسهل مما مضى، فحملات التفتيش المبتكرة كل يوم تضطرها للانتظار أكثر من ربع ساعة حتى يحين دورها لتجتهد بعدها بقطع طريقها راجلة بين الأسلاك الشائكة المعقدة التي وضعت منذ نحو شهرين في مدخل دائرتها وقيل إنها لحماية الموظفين، لكن الحقيقة التي يتهامس بها الجميع هي ان المسؤول الفلاني يخشى على نفسه من الاستهداف.. ضحكت في سرها وقالت (بربكم هل هناك مسؤول عراقي لا يخشى على نفسه؟)..
في صباح اليوم التالي قررت أن تفتح المذياع لتستمع إلى نشرة أخبار التاسعة ضمن طقس عراقي بامتياز!
* صحفية وناشطة عراقية