أوسكار وايلد
الغريب في اللغة إنها تسفر عن غرابة لا ثير الدهشة، خصوصاً حين يتكرر المشهد الدرامي الثقافي والنقدي وحتى السياسي إلى ما لانهاية وحين تضفي الاحداث الدراماتيكية المتشعبة طابعاً يتجاوز مفهومنا للسريالية في بلد لم يعرف في سنين عمره إلا العذاب والموت والجمر والندم ومهرجانات البكاء، ثمة من يقول ليس بالضرورة أن تكون الحياة آمنة وفي ذات الوقت يذكر، ربما سهواً، أن الموت، بكل أشكاله، هو الشيء الوحيد الذي يسعى إلى الناس ولا تسعى الناس إليه، يا للمفارقة والغرابة .
الثقوب السوداء وهي تعصف بحياتنا بموازاة زميلاتها الكائنة في الروح تنتج مشهداً حالكاً نراه يومياً، مشهد يحتاج لكي يرسو على سطر ما ضراوة الكلمات الأولى أو جرأة الكاتب المختلف والخاسر لا لشيء فقط للحد من النزيف أو لفرض شكل من الحياة الآمنة الجملية أو تلك الخالية من الجراثيم والفايروسات القاتلة والاوبئة والمخلوقات المتفسخة.
هذه المحنة تحمل في صفحاتها التي لا تحصى عدداً لا يحصى من الموتى أو الكسالى أو الطارئين في ميادين الحياة العراقية المختلفة والمتقاطعة .
أن تكتب، يعني انك ملزم بتسديد دين، بمعنى انك محكوم بقرض محبة دائم، فكلا الأشياء تختلف في التقابل وأن تشابهت في التعبير، وضراوة الكلمات الأولى، هي الأخرى، لا ترتدي الأقنعة إنها مكسوة بالوضوح أو الصدق المقدم على طبق من جمر المعنى .
كريهة هذه البلاد التي تحمي جلادها أو الكاتب المتواطئ يوم افتضاح أمره، فهل أصبح الموت أو التشويه والإساءة عملاً روتينياً؟ من أين تأتي هذه الروائح اللغوية الكريهة؟
كيف نتمكن من جعل الحياة قوية الأثر؟ هل العراقي يخوض حرباً بالنيابة عن الموت ضد بلاده؟ ثمة غرابة في استعادة هو هذا السؤال الأزلي: كيف أجتمع الموت والعراق في قالب واحد؟ ومن أزلية ـ استعادة هذا السؤال يمكننا أن نتساءل أيضاً: لماذا نخجل من أطلاق سراح اللغة؟
العراقيون اليوم ضحايا للتورم والمرض، الحرائق والتواطؤ، الإدانة والإساءة فهل أصبحت الخيانة (اللغوية الفكرية النقدية) عملاً باراً؟ من سيدافع عن العراق أمام: منابر الجهل وخطباء الموت والجدب أو الكتابة المزورة؟ هل من المعقول أن تخلصنا اللغة من كل هذا الموت والعقوق اللفظي؟ هؤلاء الذين حولوا البلاد إلى جامع والشوارع إلى مصلى والمدارس إلى ثكنات ومنتديات العلم والفن والأدب إلى أقبية ومسالخ والمستقبل إلى وهم، وكل شيء إلى خراب، كيف ومتى وأين سنحاسبهم؟ بعد كل هذا الخراب والتلاشي والضحايا والظلم والطغيان والوشاة والادلاء وتوصيات العقائدي الجديد لا يمكن لنا أن نتساءل بسذاجة: من يصنع الموت في بلاد الرافدين؟ فالموت المعنوي واللفظي والروحي هو الشيء الوحيد الذي لا شريك له إلا العراقي، وهذا الأخير يجعل من اللغة كائناً غريباً مثلما يجعل من المعنى كتلة هلامية .
المعاناة مع اللغة أبدية، والمعاناة، هنا، ليست كلمة في قاموس، بل كلمة تنبض بالحياة، وبكل ما تزخر به الحياة من قدسية وحرية ومعنى، وعلى الكتابة أن تُرجع للغة حرارتها الأولى وللمعنى بداهته، وأن تنقلنا من البلاهة والبلادة واللامبالاة إلى البديهيات الأولى: قيمة الإنسان وقيمة الحياة، فمرجعية الكلمات أو اللغة هي الإنسانية والتحرر والتحليق والخلق .