لماذا يموت عراقي اسمه عبد الستار ناصر في بلاد بعيدة تدعى كندا؟ ما الذي طوح به من أرض الشمس ليرقد في ثلوج الغربة الموحشة؟
لماذا يموت الجواهري وهادي العلوي ويوسف الصائغ في دمشق، وغائب طعمة فرمان في موسكو، وشمران الياسري في براغ، وقاسم محمد في الشارقة، وعوني كرومي وسركون بولص في برلين، ومحمد غني حكمت في عمان، وبلند الحيدري في لندن؟
لماذا هاجر مظفر النواب الى سوريا، وسعدي يوسف وفيصل لعيبي الى بريطانيا، وسهيل سامي نادر وخالد السلطاني الى الدانمارك، وبرهان شاوي الى المانيا، وفالح عبد الجبار وجواد الأسدي الى لبنان، ولطفية الدليمي وعلي السوداني الى الاردن، ولميعة عباس عمارة وسنان انطون الى الولايات المتحدة، وبسام فرج وعرفان رشيد الى فرنسا، ويحيى السماوي الى استراليا، وجاسم المطير الى هولندا، وآلاف آخرون من خيرة مبدعي العراق وكبار أطبائه ومهندسيه وكوادره العلمية؟
ملف المهاجرين العراقيين فيه ملايين الصفحات، بعدد من هاجروا في موجات متعاقبة هربا من جحيم الحروب العبثية، وقسوة الدكتاتورية، ومحنة الاقتتال الطائفي والتهجير الداخلي. غادروا العراق بلا حقائب سفر تاركين خلفهم دموع أمهاتهم وحبيباتهم، وكتبهم وأشياءهم الصغيرة، وانطلقوا الى المجهول باحثين عن الحرية والأمان. تكدسوا معا في أرخص فنادق العواصم والمدن، وعملوا في مهن صغيرة مضنية كي يديموا حياتهم، ولاحقتهم السلطات الأمنية في أكثر من دولة فتنقلوا متسللين عبر حدود الدول. بعضهم مات على أيدي المهربين القساة وغرق آخرون في قوارب الموت بينما كان ساحل استراليا على مرمى البصر منهم. لن نعرف أبدا عددهم ولا أسماءهم لكننا نعرف أنهم ضحايا آلة طرد مركزي جهنمية ما زالت تطحن العراقيين وتذروهم في أصقاع الارض.
بعض هؤلاء المهاجرين ذاب في مجتمعه الجديد ولم نعد نسمع له صوتا، لكن غالبية المبدعين منهم قاومت غربتها بالابداع المتصل بعراقهم الذي لفظهم يوما خارج الحدود. كثيرون منهم حفروا لأنفسهم مواقع ثقافية مرموقة في مجتمعاتهم الجديدة فرفعوا اسم وطنهم في المنافي.
بعد سقوط الدكتاتورية، برق الأمل في النفوس وتدفق المئات من المبدعين على العراق ليضعوا مواهبهم وخبراتهم تحت أقدام الوطن, لكن وجوها كئيبة عابسة تسيدت المشهد قالت لهم بعشرات الأساليب لا مكان لكم بيننا ولسنا بحاجة الى ثقافتكم لأننا سنبني ثقافتنا المختلفة. وما بنوا شيئا، وظل التصحر الفكري والثقافي سيد الموقف فيما عاد مبدعو الخارج منكسرين يلوذون بمنفاهم من ظلم الوطن. قال لي احدهم يوما وانا اودعه \”لأول مرة منذ ربع قرن احس بأنني فقدت العراق الى الأبد. ما عاد هناك وقت لمحاولة اخرى\”.
ملف المهاجرين العراقيين طويل وقاس لم يفتحه أحد حتى اليوم.