قبل ايام قليلة، شوهد فستان ابيض ملطخ بالدم في احدى (عوجات) مدينة الموصل، قيل انه نُسخة من فستان عروس مندلي التي قضت بقذيفة مدفعية ايرانية ليلة زفافها.
اتذكر جيدا اني وزميل لي لما انتهينا من قراءة قصة مندلي في منهاج الصف الرابع الابتدائي، حتى اغرورقت عيوننا واستشطنا غضبا واعتمل الحقد في داخلنا ضد العدو، ومذ ذاك طلبنا من معلمة الوطنية ان تكتب لنا على ورق الامتحانات \”احسنت يا ضابط بدل دكتور\” .
مأساة مندلي الشهيرة استعملت للتحريض على القتال في الحرب مع ايران ولو قدر ليد الحرب ان تطلنا لجرجرتنا الى ارض المعركة لا محال، ثم صارت فيلما سينمائيا، وخلدت الواقعة بتمثال مبتور الاطراف تجسيدا للبطلة، نُصب عند مدخل مدينة مندلي في ديالى، ولا ادري هل مازال التمثال موجودا ام اذابته حميمية العلاقة بين العراق الجديد وإيران القديمة! او حتى ازيل ضمن سياسة محو اثار النظام السابق.
المهم ان الحدث كان جرحا انسانيا غائرا ويدلل لمن يتدبر جيدا ان الحروب مغتصبةُ السعادة وإنها لا تأتِ بخير للبشرية ابدا.
مر 30 عاما وها هي القصة تولد من جديد بمدينة الموصل، لن اتحدث طويلا عن فصل الحب الذي جمع العروسين ولا عن معاناة التحضير لزواج \”الاقساط والجمعيات\”، سأقف قليلا على يوم الزفاف او قل يوم القيامة.
العريس وسط غرفته المزينة والمعطرة بماء الورد بين اصدقائه وأفراد عائلته، للمرة الاخيرة يقف امام المرآة يعدل ربطة عنقه، يهبط من السلم محفوفا بالأهازيج الموصلية (وردة حاق .. وردة حاق)، تلقفته عينا والدته ودموع الفرح على خديها دجلة، ضمته قبلته شمت عطره: (محروس باسم الله وليدي).
العروس عند اهلها من حولها الشقيقات والقريبات والصديقات، الخجل يخمر فرحتها، انها تنتظر كفا تطير بها الى عش الزوجية حيث تبني عائلة جديدة سعيدة.
خفق قلبها عندما اقتربت اصوات طروبة، وأطلت طفلة برأسها من الباب وصاحت: (وصلت الزفة).
أيقظتها من شرودها كفه الدافئة، فقد وجدت نفسها في سيارة مزينة الى جانب عريسها، مال اليها هامسا في اذنها: انت الان ملك لي.
تبسمت وهي تشاكسه: ليس بعد…
طاف (الزفافة) الشوارع راقصين فرحين، المارة يتبسمون ويتغامزون، تذكر بعضهم يوم زفافه وآخرون تمنوا ان يحين دورهم.
بقي امام الموكب نقطة تفتيش واحدة قبل المطاف الاخير. رأت العروس جنودا مدججين بالسلاح، كتلا اسمنتية كتب عليها بخط رديء \”الموت للإرهاب\” ، اسلاكا شائكة، مطبات مصطنعة، وسيارة مقبلة لم تلفت انتباه احد.
وحدها العروس كانت تراقب السيارة عندما توقفت للتفتيش، وعلى بعد امتار قليلة، فجأة من دون سابق إنذار، ارتفع منها جبل من نار، تشظت الى سكاكين قطعت خيوط الحياة، تناثرت اشلاء في الهواء، انتشر في المدى دوي كأنما نفخ في الصور، ثم ساد سكون.
ما هي إلا برهة حتى تلبدت السماء بغيمة دخانية، علا عويل من افواه كانت من لحظة تضحك وتغني وتصفر، اخذ الجميع يهرب خشية وقوع انفجار ثانٍ او ردة فعل طائشة من الجنود الناجين.
لم تتحرك العروس، إنها تنتظر اميرها يحملها بين ذراعيه ويطير بها بعيدا عن الموت، لكنها اخطأت ان يده كانت مرخية جدا.
اسرع احدهم وفتح الباب، سحلها الى الجانب الاخر من الشارع، فاقت من الصدمة ولم تعر اهمية لأطرافها المحترقة، انما تسمرت انظارها على سيارة الزفاف انها تحترق بورودها وزينتها و…… عريسها، لطمت بكت، إلا ان صوت الجنون كان يصم الاذان، القت نظرة اخيرة حاولت التشبث بروحه الصاعدة الى السماء، لكن بلا جدوى. فقد مات زوجها، مات الحياة كلها.
لم انقل تفاصيل هذه النكبة الانسانية من صفحات الوكالات او شهود العيان فقط، لا، بل شاهدت بأم عيني النار والعروس والقيامة، كان ذلك في مقطع فيديو صوره على ما يبدو احد الجنود لحظة الكارثة، وانتشر من يومين على نطاق واسع على صفحات الفيسبوك.
لكن، لمن يا ترى نكتب قصة عروس الموصل التي ما زالت على قيد الحياة، ويقال ان بعض اطرافها بترت، ناهيك عن الجروح البليغة التي لم تشف منها بعد.
وأين ننصب التمثال ولمن؟ للعريس الشهيد ام للعروس المفجوعة!.
هل نكتب وننحت ونصور ونمثل كما فعلنا لعروس مندلي، ام نكتفي بالصمت في قصة \”عروس موصلي\”… ولا شيء غير الصمت.